نشر موقع ( النور ) مقالي المعنون ( لوحة وقصيدة ):
لوحة وقصيدة
داود سلمان الشويلي
http://www.alnoor.se/article.asp?id=301059
((إن المعاني الخيالية هي محرِّكة العقل، لا متحركة. (...) فالخيالات هي ضروب من المحسوسات عند غياب المحسوسات. (...) فالعقل يجرِّد التصور ويخلقه.)) .(ابن رشد، الكتاب الكبير للنفس لأرسطو، ت: إبراهيم الغربي، دار الحكمة، 1997، ص 218-221).
نحن ركب ملجن فـــــي زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال
من نبات الجديل تمشي بنا في الـ ... بيد مشي الايام فـــــــي الآجال
ان قصائد المتنبي تحمل القاريء على التيقن بأن هذا الشاعر كان همه تدمير الواقع من خلال تدمير الانظمة المنطقية التي تحكمه ، فأي منطق يجعل من المشبه به مشبها ً ، وبالعكس ؟ واي منطق يجعل من ( الجـِمال = الابل ) مشخصة بالطيور ؟
لقد كان الشاعر في هذا البيت مدهشاً ، وهذا ما كان عليه الشعراء المجددين ، وهذا ما ارادت السريالية ان تصل اليه ، أي في قدرة الاثنين الشاعر المجدد ، والسريالية الى الوصول اليه من عملية الادهاش التي تأتي من تداخل الصور الشعرية ، وتفكيك العلاقات التي تربط عناصر النص ، وكذلك ، وهو المهم ،تفكيك البنية اللغوية 0
في هذا البيت ، يرسم المتنبي لوحة تشكياية واقعية ، وفي الآن نفسه تخييلية لموكب يضم راكبي الجـِمال وهي تسير في الصحراء 0، كما صورها الرسام العراقي فائق حسن بخيوله وراكبيها التي تثير الغبار وهي تعدو سريعا في مفازات الصحراء الواسعة راسما اياها بتعبيرية تجريدية تغيب عنها التشخيص العياني .
فالموكب – كما هو في الصحراء – حدث واقعي ، حسي ، والراكبون يرتدون الزي العربي ، ويغطون اجسادهم بالعباءة العربية ، ووجوههم مغطاة باللثام ، الا ان المتنبي لا يرى ما هو مرأي من قبل الاخرين ، وانما كما يقول رامبوعنه ، انه يقوم بـ (( رؤية ما لا يرى ، وسماع ما لا يسمع )) وفي الوقت نفسه ، يعيننا على ان نرى تلك الرؤية التخييلية لذلك الموكب 0
اذن ، فالشاعر يقوم بتحويل الواقع الى خيال ، والخيال الى واقع ، أي يحول الصورة الواقعية ، المنطقية ، الى صورة متخيلة ، غير واقعية ، يجمع بين عناصرها اللامنطق ، فيصبح ( الخداع البصري ) الذي تقوم به حواسه - و بالتفاعل مع المحيط - ، وهو الفاعل الوحيد في تلك الرؤية ، فضلا ً عن دور المخيلة ،وما يضفيه جو الصحراء في النهار ، وكذلك ما يضفيه السراب الخادع للعين من كسر للرؤية ، يدفع بالمخيلة الى ان ترى ما هو واقعي بلباس غير واقعي .
اما اذا كان مسير الركب ليلاً ، فأن اجواء ليل الصحراء يجعل المكان اكثر ( خرافية ) واسطورية ، بما يتجسد فيه – بفعل عامل التخيل – من رؤى شبحية ، لتصورات سابقة عن الجن والاشباح والطناطل 000الخ 0
ومن الطريف ، ان ناقدا ً عربيا ً كالجاحظ ، قد انتبه لهذا الامر ، وسبق رامبو بألف عام عندما فسر هذه العملية بكل عقلانية وعلمية ، وجاء بالعبارة ذاتها التي استشهد بها رامبو في ان الشاعر يقوم بـ (( رؤية ما لا يرى وسماع ما لايسمع )) 0 قال الجاحظ وهو يكذب ما اشيع حول شياطين الشعر : (( واذا استوحش الانسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقصت اخلاطه فرأى ما لايرى وسمع ما لايسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير انه عظيم جليل )) 0 (الحيوان – 6/ 164 )
ان الصورة الواقعية للركب كما يمكنها ان تكون ، وفي مرأى الانسان ، يمكن رسمها هكذا :
نحن ركب من الانس في زي جن فوق جمال ( خيول ) لها شخوص الطير
هنا تلعب الاستعارة ، والتشبيه دوراً كبيراً في رسم هذه الصورة السريالية في بيت المتنبي الذي يشبه ناس الركب بالجن ، وفي الوقت نفسه يستعير للصورة الانسية ، الصورة ( الجنية ) ، اذ تحول العباءة المتطايرة في هواء المسير ، واللثام ، الانسي الى ( جني ) وفي الوقت نفسه يشبه المتنبي واسطة النقل ( الجـِمال ) بالطير في سرعة حركته وتقلبه في الهواء ، اذ تتراءى له ( الجـِمال ) وكأنها تطير في اجواء الصحراء لخفتها ، ولما يفعله المكان من تأثير على الرؤية 0
لكن المتنبي ، هذا الشاعر العظيم الذي يرى ما لا يرى ، المجدد الدائم ، يستعير الخيال السريالي قبل السرياليين بألف عام ، ليقدم من خلاله ما يحس به وما يراه ، لأنه لا يرتضي بما تراه عيناه من صور ( واقعية ) ، وانما يجعل من مخياله ( المعمل ) الابداعي لانتاج صور مغايرة للواقع دون ان تبتعد عنه 0
وقد كانت تجارب الفنان العرالقي فائق حسن في رسم الخيول العربية من خلال تعبيريته التجريدية ، حيث يختفي التشخيص عن شخوص ومكونات اللوحة الداخلية حتى بدت للمتلقي عبارة عن اشكال هندسية ، وهكذا كان الفنان فائق حسن قد لعب بالكتلة و باللون بحيث استطاع ان يعبر عن هواجسه وهمومه الانسانية .
لقد كان الفنان العراقي فائق حسن الوجه الثاني للعملة الذهبية العراقية فيما كان الشاعر العربي العراقي ابو الطيب المتنبي الوجه الاول منها في رسم ما يدور في مخياله الابداعي عما راه في الواقع من رجال على ظهور الجمال ( الخيل ) وهم يقطعون مفازة الصحراء فراح مخيالة الابداعي يصور له ما كان يرسمه من صور ذات طبيعة سريالية كما تخيل ذلك الفنان.
هويته الشخصية فائق حسن
1-من مواليد سنة1914-في محلة البقجة قرب النادي العسكري
2- اكتشفت اصابعه سليقته الفنية وهوبعد في سن السا بعة
3- احتضنه مدرسو ماة الرسم في كافة المراحل الدراسية فكانوا وراء اندفاعه الفني
4- اقام اول معرض شخصي له سنة 1938
5-شارك بعدة معارض مع جماعة الروا د في الأربعينات
6-شارك بعدة معارض في اورزدي باك 0
7- اقام عدة معارض مع اصدقاء الشرق الأوسط في مصر وبيروت0
8- اقام معرضاً متجولا ً في امريكا
9- اقام معرضا ً خا صاً في بولونيا
10- توفي في باريس سنة 1992