الخليفة الراشد عمر بن الخطاب
العلماني الاول في الدولة الاسلامية
داود سلمان الشويلي
كلنا – اقصد الذين يناقشون الموضوعات التي تتحدث عن القرآن على اقل تقدير - قرأ القرآن الكريم ، قراءة حفظ او تدبر ، والقراءة الاخيرة هي القراءة المطلوبة ، وكلنا - على اقل تقدير - قرأ الكتب المحايثة له او اطلع عليها ، من تفاسير واعجاز واسباب النزول وغيرها من العلوم التي درست القرآن.
وكلنا عرف وفهم الايات التي تتحدث عن الحاكمية المطلقة لله او الرسول.
وكلنا قرأ سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وعرف وفهم اعماله واحكامه وما قدمه للاسلام عندما صاحب الرسول او بعد مماته وخاصة ابان فترة خلافته .
وفي هذه الدراسة سنبحث تطابق او عدم تطابق الاجراءات التي قام بها هذا الخليفة اعتمادا على مبدأ الحاكمية لله طيلة فترة خلافته ، من حيث تطبيق الشرع الالهي المنزل.
***
نحن نعرف ان العلمانية – في فهمها البسيط - هي مبدأ فصل الدين عن الدولة – ابتداءا او خاتمة -، وبلا مقدمات تفصيلية، نعرف جيدا ،ان الدولة لم تنشأ في زمن الرسول ، بل نشأت من خلال تراكم التجارب واستحداث المؤسسات في زمن الخلافة الراشدة والاموية والعباسية ، ثم تحولت الى ما هي عليه الان على يد الاوربيين.
واذا كان العشرات من الكتّاب قد تحدثوا عن عدم امكانية الرجوع بالزمن الى ما قبل الف واربعمائة سنة لنعيد زمن الخلافة الراشدة، لانها لا تصلح لزماننا الحاضر، للاسباب الموضوعية التي قدموها في دراساتهم ، فإن السطور هذه ستقدم الماحة قصيرة عن كيفية فهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لقضية تطبيق الشرع، ولقضية العدل الاجتماعي، من خلال فهمه لحركة الواقع ، وتعطيله لبعض الحدود التي جاء بها القرآن الكريم حسب هذه الحركة، دون ان يرتفع صوت احتجاج ضده من قبل الناس الذين صاحبوا الرسول في زمن نزول الوحي، او اقامته فهما جديدا لمبدأ قرآني ، علما ان السطور هذه وكاتبها على دراية تامة بقاعدة فقهية تنص على: ان لا اجتهاد امام النص ، ولا يغرنا قول من قال ان عمر اجتهد دون سند في كل ما قام به ،بل كان سنده الواقع المعاش الذي يقدم العلل والاسباب بحركته المتتالية والمتوازية.
***
عمر بن الخطاب:
هو : ( عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ويكنى أبا حفص وأمه حنتمة ابنة هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ،بويع في الوقت الذي كانت فيه وفاة أبى بكر ففتح الله على يديه أكثر البلاد فجند الأجناد ومصر الأمصار ودون الدواوين وفرض العطاء وكتب التاريخ وسن صلاة التراويح في شهر رمضان ، وقتل بالمدينة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل أقل من ذلك والأول أشهر ، قتله أبو لؤلؤة الفارسي عبد المغيرة بن شعبة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر في حجرة عائشة ). (1)
***
1 آ - قال الله تعالى:
* فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [آل عمران -159 ]
وقال تعالى:
* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون [الشورى - 38 ]
هاتان الايتان يبينان ان امور الرعية تتم بالمشاورة ، يدعمهما قول النبي لاصحاب النخيل " انكم ادرى بإمور حياتكم" في قصة مشهورة عن تأبير النخيل .
و قصة سقيفة بني ساعدة معروفة للجميع ولا داع لاعادتها هنا ، الا ان ما تمخض عنها كان وصول ابا بكر الصديق للخلافة بإختيار شخص واحد هو عمر بن الخطاب امام جمهرة من المسلمين .
ونحن هنا لا نناقش صحة الاختيار من عدمه، بقدر ما نريد ان نبين ان الصحابي عمر بن الخطاب قد وجد المصلحة في اختيار ابي بكر خليفة للمسلمين في ذلك الوقت العصيب ، اما الشورى فلتذهب الى الجحيم ، ما دامت المصلحة هي الامر المهم في ذلك ، اعتمادا على قواعد فقهية ، قننت فيما بعد ، من مثل:
- قاعدة المصالح المرسلة . -قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .- قاعدة ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين .
اذ وجد عمر في هذه القواعد مخرجا له في اختيار ابي بكر للخلافة (2) من حيث رعاية مصالح المسلمين ، اذا اخذنا بنظر الاعتبار ما نقلته المصادر التاريخية بما معناه ان عمر اجاب عليا او العباس بما يفيد ان العرب او المسلمين لا يقبلوا بان تكون فيهم النبوة والخلافة ، او لانه عرف ان العرب والمسلمين كانوا لا يقبلوا عليا (3) خليفة لانه قتل رجالهم ،او لانه رأى ان العرب والمسلمين درجوا على امرة الشيوخ لا الشباب ، او لهذه الاسباب مجتمعة.
اما قول عمر بعد ذلك ان بيعة ابي بكر الصديق هي فلتة وقى الله المسلمين شرها ، فهو كلام جاء بعد التنفيذ لا يغني و لا يسمن . (4) خاصة اذا فهمنا القاعدة الفقهية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )، واذا كان عمر يرى في اختياره لابي بكر فلتة ، أي كانت مفسدة ، فقد جلب من خلالها المصلحة للامة الاسلامية ، بعدم تعرضها للفرقة.
وينطبق هذا القول على القاعدة الثالثة (ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين).
***
ب – عن قول النبي : (الخلفاء من قريش)
اذا كان الصراع الذي انتهى الى عقد الخلافة لابي بكر الصديق في السقيفة بالانحياز الى العشيرة القرشية ، فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي كان صاحب اليد الطولى في ذلك الصراع ، وكأنه نسي هذا الحديث او تناساه ،فيما لو صدق الحديث ، قال قبيل وفاته ( لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته ) (5) وسالم لم يكن قريشيا ، فما هي الاسباب التي دفعت الخليفة الى ذلك؟ اترك الاجابة لمن يريد الاجابة بعد ان يضع في تفكيره ان سالما كان من الموالي.
***
2 – قال تعالى:
* والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم [المائدة- 38 ]
تذكرالمصادر ان حد السرقة قد طبق زمن النبي(6)، اما الحادثة التي تروى عن ذلك زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، هي قيام رقيق حاطب بن أبي بلتعة بسرقة ناقة من ابل رجل ، وعندما وصل الخبر للخليفة عمر بن الخطاب لم يقطع ايدي السراق، وانما غرم حاطب بن بلتعة ثمنها ،لان السراق من رقيقه، وهو المسؤول عن اعالتهم، خاصة وقد اقروا بانهم سرقوا لجوعهم.
هنا نرى ان عمر بن الخطاب لم يقف عند المحتوى العام للنص ، بل ذهب مع العلة، والعلة هي مناط الحكم ، وليس تطبيق آية جاءت بصورة عامة .
فضلا عن ذلك فقط اوقف حد السرقة عام المجاعة.
***
3 – عطّل الخليفة ابن الخطاب (التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب) (7) للعلة التي وجدها عمر ذاك الوقت، اذ ان ظروف الحرب تختلف عنها في السلم، علما ان القرآن الكريم لم يضع حدا لشاربه ، ولم تذكر المصادر التاريخية ان النبي قد حد شاربها ، ربما لعدم وقوعها في الفترة القصيرة التي جاءت بعد نزول الاية : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة -90]، ووضع الحد في زمن ابن الخطال من خلال قياس الامام علي بن ابي طالب على الذي يهذي مفتريا على المسلمين.
***
4 – قال تعالى :
* إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم [التوبة-60 ]
اوقف عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم ، فيما القرآن الكريم قد اعطاهم الحق في الصدقات ، الا ان الخليفة رأى ان العلة لم تعد قائمة بعد انتشار الاسلام .(8)
***
يقول فرج فودة في الحقيقة الغائبة ، بعد ان يورد مجموعة من الحدود التي اوقفها عمر بن الخطاب :
(نكتشف حقيقتين هامتين :
أولاهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل ، ولم يقف عند ظاهر النص .
وثانيهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركاً أن العدل غاية النص ، وأن مخالفة النص من أجل العدل ، أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص ، وهذه الروح العظيمة في التطبيق ، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم ، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت ، وتوقفهم أمام ظاهر النص لا جوهره ، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر ، لاتهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة ، ولقاعدة شرعية لا لبس فيها ولا غموض ، ولحد من حدود الله لا شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم في مواجهته بالآيات التي لا يملون تكرارها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) ، دون توقف أمام أسباب التنزيل ، أو حكمة النص أو العقوبة ، ولعلهم يدركون أن التأسي بعمر وارد ، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله ، ويرونه فينكرونه .).
***
نتساءل، ويحق لنا التساؤل ، اليس في ما ذكرناه من امثلة من اجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب، اضافة الى الاجتهادات الاخرى التي ذكرتها المصادر التاريخية، هي ما يمكن ان نطلق عليه في يومنا الحاضر بالامور التي تقوم بها الدولة المدنية ، الدولة التي ترى في حركة الواقع ومتغيراته العلة التي يدار حولها مناط التشريع، مما يدفعها الى ان تنبني على مبدأ فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها التشريعية ،دون المساس باصوله الايمانية؟
هذا ما كنت اقصده بالعلمانية التي قال عنها محمد اركون (العلمنة المعاشة كتوتر مستمر من اجل الاندماج في العالم الواقعي) . (9)
واذا كانت احدى المسؤليات التي تواجه العلماني هي معرفة الواقع بشكل مطابق وصحيح (10) ، فقد عرف الخليفة عمر بن الخطاب هذا الواقع جيدا وحكم وفق علته.
***
الهوامش:
1 – راجع: التنبيه والإشراف - المسعودي - ص 250 – 251 (القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
2- لا اقصد ان هذه القواعد الفقهية كانت معروفة ذاك الزمان بهذه الصيغة وهذا التقنين ، وانما اقصد ان تلك القواعد وغيرها هي ربما كانت من العرف الذي وافق الاسلام على صلاحيته.
- يقول حسن العلوي في كتابه عمر والتشيع(ثنائية القطيعة والمشاركة ) - الطبعة الأولى: كانون الثاني (يناير) 2007- الناشر: دار الزوراء ـ لندن – ص23 : (إن دور عمر في المكان المفتوح منحه دوراً مفتوحاً في زمان دائم. أنجبته تلك اللحظة الحضارية التي أغرب ما فيها وما في ذلك المكان غياب المقدس عنها. فلم ينص عليها في قرآن، ولم يشر إليها في حديث شريف. ولم يكن لعمر دور في تأسيس ذلك المكان الذي قدح فكرة خاطفة لصحابي من الأنصار، فأجتمع إلى جمع من قومه مدفوعاً بالنية الطيبة وبإحساس استراتيجي وشعور بالمسؤولية في وقت قضى الله فيه أمره، وتوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسيحدث فراغ في إدارة المشروع المحمدي إن تركت الأمور على غاربها. فكانت دعوة الأنصاري سعد بن عبادة إلى اجتماع السقيفة، هي اللبنة الأولى لاستمرار المشروع المحمدي في غياب صاحبه. ثم جاء دور عمر بن الخطاب ليختطف اللحظة ويحدد أطار المؤسسة الجديدة ورجالها الذين سيتحملون المسؤولية. ).
- ويقول العلوي عن اجتهادات عمر ،المصدر السابق - ص85: (إن الحياة الاجتماعية ومستجدات السياسة اليومية، والتغيرات الكبرى التي أحدثتها الفتوحات والاتساع الجغرافي والسكاني للدولة الناشئة، هي التي أملت على عمر بن الخطاب هذه الاختيارات).
3 – ان كانت لعلي بن ابي طالب افضلية من خلال: تفقهه في الدين، او كانت تلك الافضلية للقرابة ، او بسبب نص الهي بالوصية عليه.
4- (ألا أن بيعة أبا بكر كانت فلتة وقى الله الأمة شرها. فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا.)). (انظر البخاري كتاب المحاربين.)
5 - سالم مولى أبي حذيفة بن معقل ، أصله من إصطخر ، أعتقته بثينة بنت يعار الأنصارية : زوجة أبي حذيفة ، قتل يوم اليمامة . ( سير أعلام النبلاء ) راجع : مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 2 - ص 90هامش 2( القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
6 - جاء في أسباب النزول للسيوطي ص 90 ( راجع: "متفرقات في أسباب النزول . . وأوقاته وأمكنته" - القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
(خرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لي من توبة يا رسول الله فأنزل الله في سورة المائدة فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح الآية) .
7 - ص35 الحقيقة الغائبة - د. فرج فودة.
يقول العلوي –المصدر السابق ص55 : (وكانت الخمرة قد شاعت في المجتمع أثناء الفتوحات. وهي مشكلة جعلت عمر في أول قضاء شرعي لحد الشارب، أن يعقد مجلساً يستفتي به الصحابة حيث لم تُحَدّ شارب الخمرة لا في زمن الرسول ولا في ولاية أبي بكر، فاقترح الإمام علي حده بثمانين جلدة، وهذا هو حد القذف. إذ اعتبر الإمام كل شارب خمرة خارجاً عن إرادته فاقداً للسيطرة على عقله ولسانه فيأخذ بالشك والقدح والقذف.).
8 – جاء في ( متفرقات عن السنة والبدعة - مركز المصطفى (ص) - أعيان الشيعة للعاملي ج 1 ص 49 - القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م):
(ومزق كتاب أبي بكر الذي كتبه بأرض لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وقال ان الله أعز الاسلام).
9- العلمنة والدين – محمد اركون – دار الساقي – ط3 – 19660 ص11 .
10 – المصدر السابق - ص10.
D_alshwely@yahoo.com
الجمعة، 09 نيسان، 2010
العلماني الاول في الدولة الاسلامية
داود سلمان الشويلي
كلنا – اقصد الذين يناقشون الموضوعات التي تتحدث عن القرآن على اقل تقدير - قرأ القرآن الكريم ، قراءة حفظ او تدبر ، والقراءة الاخيرة هي القراءة المطلوبة ، وكلنا - على اقل تقدير - قرأ الكتب المحايثة له او اطلع عليها ، من تفاسير واعجاز واسباب النزول وغيرها من العلوم التي درست القرآن.
وكلنا عرف وفهم الايات التي تتحدث عن الحاكمية المطلقة لله او الرسول.
وكلنا قرأ سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وعرف وفهم اعماله واحكامه وما قدمه للاسلام عندما صاحب الرسول او بعد مماته وخاصة ابان فترة خلافته .
وفي هذه الدراسة سنبحث تطابق او عدم تطابق الاجراءات التي قام بها هذا الخليفة اعتمادا على مبدأ الحاكمية لله طيلة فترة خلافته ، من حيث تطبيق الشرع الالهي المنزل.
***
نحن نعرف ان العلمانية – في فهمها البسيط - هي مبدأ فصل الدين عن الدولة – ابتداءا او خاتمة -، وبلا مقدمات تفصيلية، نعرف جيدا ،ان الدولة لم تنشأ في زمن الرسول ، بل نشأت من خلال تراكم التجارب واستحداث المؤسسات في زمن الخلافة الراشدة والاموية والعباسية ، ثم تحولت الى ما هي عليه الان على يد الاوربيين.
واذا كان العشرات من الكتّاب قد تحدثوا عن عدم امكانية الرجوع بالزمن الى ما قبل الف واربعمائة سنة لنعيد زمن الخلافة الراشدة، لانها لا تصلح لزماننا الحاضر، للاسباب الموضوعية التي قدموها في دراساتهم ، فإن السطور هذه ستقدم الماحة قصيرة عن كيفية فهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لقضية تطبيق الشرع، ولقضية العدل الاجتماعي، من خلال فهمه لحركة الواقع ، وتعطيله لبعض الحدود التي جاء بها القرآن الكريم حسب هذه الحركة، دون ان يرتفع صوت احتجاج ضده من قبل الناس الذين صاحبوا الرسول في زمن نزول الوحي، او اقامته فهما جديدا لمبدأ قرآني ، علما ان السطور هذه وكاتبها على دراية تامة بقاعدة فقهية تنص على: ان لا اجتهاد امام النص ، ولا يغرنا قول من قال ان عمر اجتهد دون سند في كل ما قام به ،بل كان سنده الواقع المعاش الذي يقدم العلل والاسباب بحركته المتتالية والمتوازية.
***
عمر بن الخطاب:
هو : ( عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ويكنى أبا حفص وأمه حنتمة ابنة هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ،بويع في الوقت الذي كانت فيه وفاة أبى بكر ففتح الله على يديه أكثر البلاد فجند الأجناد ومصر الأمصار ودون الدواوين وفرض العطاء وكتب التاريخ وسن صلاة التراويح في شهر رمضان ، وقتل بالمدينة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة 23 وهو ابن ثلاث وستين سنة وقيل أقل من ذلك والأول أشهر ، قتله أبو لؤلؤة الفارسي عبد المغيرة بن شعبة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر في حجرة عائشة ). (1)
***
1 آ - قال الله تعالى:
* فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [آل عمران -159 ]
وقال تعالى:
* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون [الشورى - 38 ]
هاتان الايتان يبينان ان امور الرعية تتم بالمشاورة ، يدعمهما قول النبي لاصحاب النخيل " انكم ادرى بإمور حياتكم" في قصة مشهورة عن تأبير النخيل .
و قصة سقيفة بني ساعدة معروفة للجميع ولا داع لاعادتها هنا ، الا ان ما تمخض عنها كان وصول ابا بكر الصديق للخلافة بإختيار شخص واحد هو عمر بن الخطاب امام جمهرة من المسلمين .
ونحن هنا لا نناقش صحة الاختيار من عدمه، بقدر ما نريد ان نبين ان الصحابي عمر بن الخطاب قد وجد المصلحة في اختيار ابي بكر خليفة للمسلمين في ذلك الوقت العصيب ، اما الشورى فلتذهب الى الجحيم ، ما دامت المصلحة هي الامر المهم في ذلك ، اعتمادا على قواعد فقهية ، قننت فيما بعد ، من مثل:
- قاعدة المصالح المرسلة . -قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .- قاعدة ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين .
اذ وجد عمر في هذه القواعد مخرجا له في اختيار ابي بكر للخلافة (2) من حيث رعاية مصالح المسلمين ، اذا اخذنا بنظر الاعتبار ما نقلته المصادر التاريخية بما معناه ان عمر اجاب عليا او العباس بما يفيد ان العرب او المسلمين لا يقبلوا بان تكون فيهم النبوة والخلافة ، او لانه عرف ان العرب والمسلمين كانوا لا يقبلوا عليا (3) خليفة لانه قتل رجالهم ،او لانه رأى ان العرب والمسلمين درجوا على امرة الشيوخ لا الشباب ، او لهذه الاسباب مجتمعة.
اما قول عمر بعد ذلك ان بيعة ابي بكر الصديق هي فلتة وقى الله المسلمين شرها ، فهو كلام جاء بعد التنفيذ لا يغني و لا يسمن . (4) خاصة اذا فهمنا القاعدة الفقهية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )، واذا كان عمر يرى في اختياره لابي بكر فلتة ، أي كانت مفسدة ، فقد جلب من خلالها المصلحة للامة الاسلامية ، بعدم تعرضها للفرقة.
وينطبق هذا القول على القاعدة الثالثة (ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين).
***
ب – عن قول النبي : (الخلفاء من قريش)
اذا كان الصراع الذي انتهى الى عقد الخلافة لابي بكر الصديق في السقيفة بالانحياز الى العشيرة القرشية ، فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي كان صاحب اليد الطولى في ذلك الصراع ، وكأنه نسي هذا الحديث او تناساه ،فيما لو صدق الحديث ، قال قبيل وفاته ( لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته ) (5) وسالم لم يكن قريشيا ، فما هي الاسباب التي دفعت الخليفة الى ذلك؟ اترك الاجابة لمن يريد الاجابة بعد ان يضع في تفكيره ان سالما كان من الموالي.
***
2 – قال تعالى:
* والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم [المائدة- 38 ]
تذكرالمصادر ان حد السرقة قد طبق زمن النبي(6)، اما الحادثة التي تروى عن ذلك زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، هي قيام رقيق حاطب بن أبي بلتعة بسرقة ناقة من ابل رجل ، وعندما وصل الخبر للخليفة عمر بن الخطاب لم يقطع ايدي السراق، وانما غرم حاطب بن بلتعة ثمنها ،لان السراق من رقيقه، وهو المسؤول عن اعالتهم، خاصة وقد اقروا بانهم سرقوا لجوعهم.
هنا نرى ان عمر بن الخطاب لم يقف عند المحتوى العام للنص ، بل ذهب مع العلة، والعلة هي مناط الحكم ، وليس تطبيق آية جاءت بصورة عامة .
فضلا عن ذلك فقط اوقف حد السرقة عام المجاعة.
***
3 – عطّل الخليفة ابن الخطاب (التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب) (7) للعلة التي وجدها عمر ذاك الوقت، اذ ان ظروف الحرب تختلف عنها في السلم، علما ان القرآن الكريم لم يضع حدا لشاربه ، ولم تذكر المصادر التاريخية ان النبي قد حد شاربها ، ربما لعدم وقوعها في الفترة القصيرة التي جاءت بعد نزول الاية : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة -90]، ووضع الحد في زمن ابن الخطال من خلال قياس الامام علي بن ابي طالب على الذي يهذي مفتريا على المسلمين.
***
4 – قال تعالى :
* إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم [التوبة-60 ]
اوقف عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم ، فيما القرآن الكريم قد اعطاهم الحق في الصدقات ، الا ان الخليفة رأى ان العلة لم تعد قائمة بعد انتشار الاسلام .(8)
***
يقول فرج فودة في الحقيقة الغائبة ، بعد ان يورد مجموعة من الحدود التي اوقفها عمر بن الخطاب :
(نكتشف حقيقتين هامتين :
أولاهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل ، ولم يقف عند ظاهر النص .
وثانيهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركاً أن العدل غاية النص ، وأن مخالفة النص من أجل العدل ، أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص ، وهذه الروح العظيمة في التطبيق ، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم ، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت ، وتوقفهم أمام ظاهر النص لا جوهره ، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر ، لاتهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة ، ولقاعدة شرعية لا لبس فيها ولا غموض ، ولحد من حدود الله لا شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم في مواجهته بالآيات التي لا يملون تكرارها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) ، دون توقف أمام أسباب التنزيل ، أو حكمة النص أو العقوبة ، ولعلهم يدركون أن التأسي بعمر وارد ، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله ، ويرونه فينكرونه .).
***
نتساءل، ويحق لنا التساؤل ، اليس في ما ذكرناه من امثلة من اجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب، اضافة الى الاجتهادات الاخرى التي ذكرتها المصادر التاريخية، هي ما يمكن ان نطلق عليه في يومنا الحاضر بالامور التي تقوم بها الدولة المدنية ، الدولة التي ترى في حركة الواقع ومتغيراته العلة التي يدار حولها مناط التشريع، مما يدفعها الى ان تنبني على مبدأ فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها التشريعية ،دون المساس باصوله الايمانية؟
هذا ما كنت اقصده بالعلمانية التي قال عنها محمد اركون (العلمنة المعاشة كتوتر مستمر من اجل الاندماج في العالم الواقعي) . (9)
واذا كانت احدى المسؤليات التي تواجه العلماني هي معرفة الواقع بشكل مطابق وصحيح (10) ، فقد عرف الخليفة عمر بن الخطاب هذا الواقع جيدا وحكم وفق علته.
***
الهوامش:
1 – راجع: التنبيه والإشراف - المسعودي - ص 250 – 251 (القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
2- لا اقصد ان هذه القواعد الفقهية كانت معروفة ذاك الزمان بهذه الصيغة وهذا التقنين ، وانما اقصد ان تلك القواعد وغيرها هي ربما كانت من العرف الذي وافق الاسلام على صلاحيته.
- يقول حسن العلوي في كتابه عمر والتشيع(ثنائية القطيعة والمشاركة ) - الطبعة الأولى: كانون الثاني (يناير) 2007- الناشر: دار الزوراء ـ لندن – ص23 : (إن دور عمر في المكان المفتوح منحه دوراً مفتوحاً في زمان دائم. أنجبته تلك اللحظة الحضارية التي أغرب ما فيها وما في ذلك المكان غياب المقدس عنها. فلم ينص عليها في قرآن، ولم يشر إليها في حديث شريف. ولم يكن لعمر دور في تأسيس ذلك المكان الذي قدح فكرة خاطفة لصحابي من الأنصار، فأجتمع إلى جمع من قومه مدفوعاً بالنية الطيبة وبإحساس استراتيجي وشعور بالمسؤولية في وقت قضى الله فيه أمره، وتوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسيحدث فراغ في إدارة المشروع المحمدي إن تركت الأمور على غاربها. فكانت دعوة الأنصاري سعد بن عبادة إلى اجتماع السقيفة، هي اللبنة الأولى لاستمرار المشروع المحمدي في غياب صاحبه. ثم جاء دور عمر بن الخطاب ليختطف اللحظة ويحدد أطار المؤسسة الجديدة ورجالها الذين سيتحملون المسؤولية. ).
- ويقول العلوي عن اجتهادات عمر ،المصدر السابق - ص85: (إن الحياة الاجتماعية ومستجدات السياسة اليومية، والتغيرات الكبرى التي أحدثتها الفتوحات والاتساع الجغرافي والسكاني للدولة الناشئة، هي التي أملت على عمر بن الخطاب هذه الاختيارات).
3 – ان كانت لعلي بن ابي طالب افضلية من خلال: تفقهه في الدين، او كانت تلك الافضلية للقرابة ، او بسبب نص الهي بالوصية عليه.
4- (ألا أن بيعة أبا بكر كانت فلتة وقى الله الأمة شرها. فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا.)). (انظر البخاري كتاب المحاربين.)
5 - سالم مولى أبي حذيفة بن معقل ، أصله من إصطخر ، أعتقته بثينة بنت يعار الأنصارية : زوجة أبي حذيفة ، قتل يوم اليمامة . ( سير أعلام النبلاء ) راجع : مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 2 - ص 90هامش 2( القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
6 - جاء في أسباب النزول للسيوطي ص 90 ( راجع: "متفرقات في أسباب النزول . . وأوقاته وأمكنته" - القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م).
(خرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لي من توبة يا رسول الله فأنزل الله في سورة المائدة فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح الآية) .
7 - ص35 الحقيقة الغائبة - د. فرج فودة.
يقول العلوي –المصدر السابق ص55 : (وكانت الخمرة قد شاعت في المجتمع أثناء الفتوحات. وهي مشكلة جعلت عمر في أول قضاء شرعي لحد الشارب، أن يعقد مجلساً يستفتي به الصحابة حيث لم تُحَدّ شارب الخمرة لا في زمن الرسول ولا في ولاية أبي بكر، فاقترح الإمام علي حده بثمانين جلدة، وهذا هو حد القذف. إذ اعتبر الإمام كل شارب خمرة خارجاً عن إرادته فاقداً للسيطرة على عقله ولسانه فيأخذ بالشك والقدح والقذف.).
8 – جاء في ( متفرقات عن السنة والبدعة - مركز المصطفى (ص) - أعيان الشيعة للعاملي ج 1 ص 49 - القرص الالكتروني مكتبة اهل البيت - الإصدار الأول- 1426 – 2005 م):
(ومزق كتاب أبي بكر الذي كتبه بأرض لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وقال ان الله أعز الاسلام).
9- العلمنة والدين – محمد اركون – دار الساقي – ط3 – 19660 ص11 .
10 – المصدر السابق - ص10.
D_alshwely@yahoo.com
الجمعة، 09 نيسان، 2010
هناك تعليق واحد:
الاخ الكريم عمر بن الخطاب درأ الحد بسبب الشبهة وليس اجتهادا كما ادعيت فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين الأول للكتاب قال : ادرأوا الحدود بالشبهات . وأنت أثبت أن السرقة كانت بدعوى الجوع والحاجة وهذه شبهة فحري بمن يتكلم أويكتب أن يكون مطلعا بشكل شمولي على ماسيكتب وفقك الله
إرسال تعليق