اختلاف القول في
"عبس وتولى"
داود سلمان الشويلي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( عبس وتولى * أن جاءه الاعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى* وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى* كلا إنها تذكرة* فمن شاء ذكره* في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة* كرام بررة)) .[ عبس: 1 - 16 ]
***
جاء في السيرة النبوية :(( وقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله "ص" ، ورسول الله "ص" يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فبينا هو في ذلك [ إذ ] مر به ابن أم مكتوم الاعمى ، فكلم رسول الله "ص" ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله "ص" حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه ، فأنزل الله تعالى فيه : { عبس وتولى أن جاءه الاعمى } إلى قوله تعالى : { في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة - 1 إلى 14 من سورة عبس } . أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا ، لم أخص بك أحدا دون أحد ، فلا تمنعه ممن ابتغاه ، ولا تتصدين به لمن لا يريده . قال ابن هشام : ابن أم مكتوم : أحد بنى عامر بن لؤى ، واسمه عبد الله ، ويقال : عمرو )). (سيرة النبي (ص ) - ابن هشام الحميري: ج 1- ص 244 ).
***
من قراءة اولية لهذه الايات ، نجدها تحمل خطابا موجها للنبي "ص" ، اعتمادا على الدلالات التالية :
1 – ان الاعمى قد جاء لمن توجه اليه الخطاب القرآني : أن جاءه الاعمى، بدلالة الضمير (هاء ) الذي يعود الى الذي عبس وتولى أن جاءه الاعمى ، ولم يقل : ان جاء الاعمى ، دون ان نلوي عنق الحقيقة ، اقصد اللغة، أي ان الذي جاءه الاعمى هو الذي عبس وتولى .
2 - فأنت له تصدى ( الاية: 6) ، الضمير في (له) يعود الى الشخص الذي كان جالسا وهو يتصدى لشخص اخر(يحاوره) ، الشخص نفسه الذي استغنى عن الحديث، فضلا عن ان (انت) يعود الى المخاطب بالنص القرآني ، والذي جاءه الاعمى .
3 – هناك مفاضلة بين شخصين :
احدهما : أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى ،أي الذي استغنى عن قولك (حوارك معه ) فأنه لا يريد ان يتزكى (لا يريد ان يأخذ بقولك، الذي هو قول الله).
والثاني : وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ، فأنه جاءك ساعيا يريد ان يتزكى ، فكانت المفاضلة بين الذي استغنى عن (قولك)، وبين الذي جاءك يسعى وهو يخشى ، فانك عن هذا الشخص- الثاني- متشاغلا.
وهكذا يكون الشخص المخاطب هو الشخص نفسه الذي جاءه الاعمى ، حسب قول اللغة العربية التي نزل بها القرآن من حيث النحو والصرف والضمائر والفاعل والمفعول ...الخ ، وان من اعجاز القرآن اللغوي هو الالتفات .
***
اما تفسير المفسرين ، وهو رأي ، علما ان القول بالرأي غير مقبول في تفسير القرآن ، فقد اختلف من مفسر الى اخر ، وبالضبط بين التفسير الذي ينطلق من معصومية الانبياء منذ الولادة ، وبين الرأي الذي ينطلق من عدم المعصومية ، او على اقل تقدير في غير ما له علاقة بالوحي.
فمن يرى ان النبي ليس في محل عتاب من الله في هذه الاية وفي غيرها، لسبب المعصومية ، كالشريف المرتضى في ( تنزيه الأنبياء- ص 166)، و الطباطبائي في تفسير الميزان - ج 20 ص 199 - 204 ، إذ يتردد في القول بالعتاب او عدمه.
فيما يشك مؤلف - الصحيح من السيرة - السيد جعفر مرتضى ج 3 ص 155 – 164 بالرواية التي تذكر معاتبة الله لنبيه لضعف أسانيدها ، كما يقول.
وهناك من يرى غير ذلك ، بل انه لا يسلم بأن الخطاب موجها للنبي ، كما عند الرازي في - عصمة الانبياء- الفخر الرازى ص 108 ، ويخلص الى نتيجة مفادها :(( أنه لا يجوز أن يقال للنبى : وما عليك ألا يزكى )) .
ثم يعود مرة ثانية ويقول : ((سلمنا أن الخطاب مع النبي "ص" لكن لا نسلم كونه ذنبا)) .
أي ان المؤلف يسلم اخيرا ان الخطاب مع النبي ، على عكس ما كان يقوله في مقدمة بحثه بأنه (بأنهم): ((لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام))، فكيف يستقيم البحث ؟ وينكر كونه ذنبا !! يعاتب عليه الله تعالى نبيه .
***
اما التفاسير الاخرى فتعتمد السيرة ، وتقول بالعتاب الموجه من الله سبحانه الى نبيه في ام مكتوم .
واغرب ما قرأت رأي للمؤلف جعفر مرتضى ، يقول فيه: ((كما تقدم ، وكان عثمان منهم ثم عاد إلى الحبشة ،وعلى كل حال ، فإن أمر اتهام عثمان أو غيره من بني أمية ، لاهون بكثير من اتهام النبي المعصوم ، الذي لا يمكن أن يصدر منه أمر كهذا على الاطلاق . وإن كان يهون على البعض إتهام النبي " "ص" " بها أو بغيرها ، شريطة أن تبقى ساحة قدس غيره منزهة وبريئة ! !)). (الصحيح من السيرة - السيد جعفر مرتضى ج 3 ص 155 – 164 .)
***
فماذا نقول – نحن الذين نتعبد الله في قرآنه - بعد كل هذا الاختلاف ؟هل نقول ان الله قد عاتب نبيه ، ام لا ؟
السبت، 12 شباط، 2011
"عبس وتولى"
داود سلمان الشويلي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( عبس وتولى * أن جاءه الاعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى* وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى* كلا إنها تذكرة* فمن شاء ذكره* في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة* كرام بررة)) .[ عبس: 1 - 16 ]
***
جاء في السيرة النبوية :(( وقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله "ص" ، ورسول الله "ص" يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فبينا هو في ذلك [ إذ ] مر به ابن أم مكتوم الاعمى ، فكلم رسول الله "ص" ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله "ص" حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه ، فأنزل الله تعالى فيه : { عبس وتولى أن جاءه الاعمى } إلى قوله تعالى : { في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة - 1 إلى 14 من سورة عبس } . أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا ، لم أخص بك أحدا دون أحد ، فلا تمنعه ممن ابتغاه ، ولا تتصدين به لمن لا يريده . قال ابن هشام : ابن أم مكتوم : أحد بنى عامر بن لؤى ، واسمه عبد الله ، ويقال : عمرو )). (سيرة النبي (ص ) - ابن هشام الحميري: ج 1- ص 244 ).
***
من قراءة اولية لهذه الايات ، نجدها تحمل خطابا موجها للنبي "ص" ، اعتمادا على الدلالات التالية :
1 – ان الاعمى قد جاء لمن توجه اليه الخطاب القرآني : أن جاءه الاعمى، بدلالة الضمير (هاء ) الذي يعود الى الذي عبس وتولى أن جاءه الاعمى ، ولم يقل : ان جاء الاعمى ، دون ان نلوي عنق الحقيقة ، اقصد اللغة، أي ان الذي جاءه الاعمى هو الذي عبس وتولى .
2 - فأنت له تصدى ( الاية: 6) ، الضمير في (له) يعود الى الشخص الذي كان جالسا وهو يتصدى لشخص اخر(يحاوره) ، الشخص نفسه الذي استغنى عن الحديث، فضلا عن ان (انت) يعود الى المخاطب بالنص القرآني ، والذي جاءه الاعمى .
3 – هناك مفاضلة بين شخصين :
احدهما : أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى ،أي الذي استغنى عن قولك (حوارك معه ) فأنه لا يريد ان يتزكى (لا يريد ان يأخذ بقولك، الذي هو قول الله).
والثاني : وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ، فأنه جاءك ساعيا يريد ان يتزكى ، فكانت المفاضلة بين الذي استغنى عن (قولك)، وبين الذي جاءك يسعى وهو يخشى ، فانك عن هذا الشخص- الثاني- متشاغلا.
وهكذا يكون الشخص المخاطب هو الشخص نفسه الذي جاءه الاعمى ، حسب قول اللغة العربية التي نزل بها القرآن من حيث النحو والصرف والضمائر والفاعل والمفعول ...الخ ، وان من اعجاز القرآن اللغوي هو الالتفات .
***
اما تفسير المفسرين ، وهو رأي ، علما ان القول بالرأي غير مقبول في تفسير القرآن ، فقد اختلف من مفسر الى اخر ، وبالضبط بين التفسير الذي ينطلق من معصومية الانبياء منذ الولادة ، وبين الرأي الذي ينطلق من عدم المعصومية ، او على اقل تقدير في غير ما له علاقة بالوحي.
فمن يرى ان النبي ليس في محل عتاب من الله في هذه الاية وفي غيرها، لسبب المعصومية ، كالشريف المرتضى في ( تنزيه الأنبياء- ص 166)، و الطباطبائي في تفسير الميزان - ج 20 ص 199 - 204 ، إذ يتردد في القول بالعتاب او عدمه.
فيما يشك مؤلف - الصحيح من السيرة - السيد جعفر مرتضى ج 3 ص 155 – 164 بالرواية التي تذكر معاتبة الله لنبيه لضعف أسانيدها ، كما يقول.
وهناك من يرى غير ذلك ، بل انه لا يسلم بأن الخطاب موجها للنبي ، كما عند الرازي في - عصمة الانبياء- الفخر الرازى ص 108 ، ويخلص الى نتيجة مفادها :(( أنه لا يجوز أن يقال للنبى : وما عليك ألا يزكى )) .
ثم يعود مرة ثانية ويقول : ((سلمنا أن الخطاب مع النبي "ص" لكن لا نسلم كونه ذنبا)) .
أي ان المؤلف يسلم اخيرا ان الخطاب مع النبي ، على عكس ما كان يقوله في مقدمة بحثه بأنه (بأنهم): ((لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام))، فكيف يستقيم البحث ؟ وينكر كونه ذنبا !! يعاتب عليه الله تعالى نبيه .
***
اما التفاسير الاخرى فتعتمد السيرة ، وتقول بالعتاب الموجه من الله سبحانه الى نبيه في ام مكتوم .
واغرب ما قرأت رأي للمؤلف جعفر مرتضى ، يقول فيه: ((كما تقدم ، وكان عثمان منهم ثم عاد إلى الحبشة ،وعلى كل حال ، فإن أمر اتهام عثمان أو غيره من بني أمية ، لاهون بكثير من اتهام النبي المعصوم ، الذي لا يمكن أن يصدر منه أمر كهذا على الاطلاق . وإن كان يهون على البعض إتهام النبي " "ص" " بها أو بغيرها ، شريطة أن تبقى ساحة قدس غيره منزهة وبريئة ! !)). (الصحيح من السيرة - السيد جعفر مرتضى ج 3 ص 155 – 164 .)
***
فماذا نقول – نحن الذين نتعبد الله في قرآنه - بعد كل هذا الاختلاف ؟هل نقول ان الله قد عاتب نبيه ، ام لا ؟
السبت، 12 شباط، 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق