الأربعاء، 29 ديسمبر 2010

فك الاشتباك- في العصمة



فك الاشتباك

في العصمة

داود سلمان الشويلي

كثر الحديث والجدال بين الشيعة الامامية الاثني عشرية وباقي المسلمين عن العصمة ، وعصمة الائمة خاصة.

الا ان تعريف الشيعة البدئي لها سيجعل مثل هذا الجدل غير ذي اهمية ، اما ما جاء به البعض من اضافات فهو قول بشر لا يدعمه نص.

فالشيعة يحتجون لعصة الائمة الالهية بأدلة منها:

آية التطهير ، وهي خاصة بثلاثة ائمة فقط ، (علي والحسن والحسين)، اذا اخذنا بالتفسير الشيعي للاية ،فضلا عن انها تتحدث عن نساء النبي، واهل هذا البيت الذي يطالبهن الله بإن يقرن في بيوتهم.

(( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )).[الاحزاب - 33 ]

والخلاف في التفسير واسع ،كبير.

اما آية المباهلة : (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين *فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)). [آل عمران:59 -61 ]

فهي خاصة بواقعة واحدة هي اثبات خلق عيسى كخلق ادم امام مسيحين من نجران.

وحديث المنزلة لا يدل على العصمة ،لان هارون ليس بنبي ، فهو غير معصوم ، وعند الشيعة الانبياء فقط هم المعصومون.

اما حديث الثقلين فمختلف في نصه ، وفي معناه بين الفرق الاسلامية.

وتبقى مسألة الجبر والاختيار ،والثواب والعقاب ، فهي مسائل فلسفية مختلف فيها، على الرغم من ان هذه السطور ترى صحة الرأي الذي يذهب الى الاختيار ، مما يعني عدم العصمة الالهية.

***

تعريف العصمة:

عند الشيعة الامامية الاثني عشرية انها تعني لغويا: المنع.

واصطلاحا هي: قوة تكوينية في العقل والعلم موهبة من الله لمن شاء من عباده - تمنعهم من اقتراف المعاصي مع قدرتهم عليها ، لأنهم ان لم يكونوا قادرين عليها لا فخر ولا فضل لهم في اجتنابها ، لأنهم غير قادرين أصلا على اقترافها. (1)

اذن هي قابلية عقلية ، أي مرجعها العقل البشري. ولما كانت كذلك ، والعقل عند الناس كافة ، فهي قابلية عقلية عند كل البشر.

وبهذا يكون جميع البشر هم معصومون ان ارادوا استخدام هذه القابلية.

أي ان كل انسان (رجلا كان او امرأة) يستطيع ان يمنع نفسه من فعل المعاصي، طالما له عقل شغال .

الا ان الشيعة الامامية الاثني عشرية يزيدون المعنيين اللغوي والاصطلاحي بقولهم : ان الائمة معصومون من الله بحكم اية التطهيرخاصة، وغيرها من الاحاديث النبوية بصورة عامة.

وبهذا تكون العصمة عند الائمة الثلاثة (والسيدة فاطمة الزهراء) هي عصمة الهية حسب احكام اية التطهير.

والسؤال الذي يثار عن هذا القول هو : كيف انسحبت هذه العصمة الى ابناء الامام الحسين ؟ وكذلك ، لماذا ابناء الحسين فقط هم المعصومون من دون ابناء الامام الحسن ؟ فضلا عن : لماذا يخرج بعض ابناء الامام المعصوم منها ، كجعفر ابن الامام علي الهادي على سبيل المثال، وغيره من الابناء ؟

هذه الاسئلة وغيرها اجاب عنها شيوخ المذهب ،ولا نريد ان ندخل في مناقشة تلك الاجابات لان الدراسة هذه غير معنية بذلك؟

والسؤال الذي تطرحه هذه الدراسة هو من ادخل حفدة الامام الحسين من الائمة في العصمة هذه ؟ ومن اخرج ابناء حفدة الامام الحسن منها؟ ومن قام بإخراج البعض من الابناء المعصومين منها؟

الجواب هو : ان الذين نص على البعض وحرم البعض هم عامة البشر ، أي شيوخ ورجال المذهب الاوائل الذي تأسس على ايديهم.

ولما كان هذا العمل من قبل بشر غير معصومين ، فهو عمل يمكن رده .

ان كل اثار الائمة القولية لا تؤكد ذلك ، وخير مصدر لتلك الاثار القولية هو كلام ابو الائمة الامام علي بن ابي طالب واقواله في نهج البلاغة ، اذ لا وجود لقول العصمة له ولابنائه.

وكذلك ، موقف الخليفة الراشد الخامس ، الامام الحسن بن علي ، وتنازله عن الخلافة الى معاوية ، وعدم احتجاجه بالعصمة.

فضلا عن ذلك ، محاججة الامام الحسين في واقعة الطف، وعدم ذكره لعصمته الالهية امام جيش يزيد.

اذا كان الله سبحانه قد سدد الائمة بالعصمة (على اعتبار ان التطهير هو مدخل للعصمة) فلماذا تنازل الامام الحسن عن الخلافة الى ملك ظالم؟ فيما كان والده الامام علي بن ابي طالب لم يتنازل له ولم يهادنه ، بل قاتله ، وقال مقولته الشهيرة (لا أفسد ديني بدنيا غيري) ، فأي الامامين المعصومين هوالصحيح في موقفه؟

وكذلك قبول الامام علي بن موسى الرضا ولاية العهد في ظل خليفة ظالم و دولة ظالمة ، كالدولة العباسية.

***

ان العصمة الالهية اول ما يفترض فيها هو عدم الوقوع تحت تأثير الظروف الخارجية ، وامامنا سيرة الانبياء المعصومين (عند الشيعة كل الانبياء ، قبل وبعد الوحي هم معصومين) .

حاصة ان الشيعة الامامية الاثني عشرية عندما تطرح عليهم مثل تلك الاسئلة، يجيبون بأن الظروف وقتذاك تطلبت ذلك الموقف، كسكوت الامام علي عن حقه بالخلافة ، وتزويج ام كلثوم ابنة الامام علي بن ابي طالب من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (الخليفة الظالم لحق اهل النبوة بالخلافة ، والكاسر لظله السيدة الزهراء) ، وتنازل الامام الحسن عن الخلاقة لمعاوية ، وقبول الامام علي الرضا لولاية العهد لملك عباسي ظالم.

الا اننا نرى ان النبي (ص) لن تؤثر فيه الظروف الخارجية على ان يتراجع عن دعوته ، ولا ان يهادن المشركين ، وقال قولته المشهورة الى عمه ابي طالب : لو وضعوا القمر في يميني والشمس في شمالي على ان اترك هذا الامر لما تركته.

وكذلك موقف الامام علي بن ابي طالب الخليفة الراشد الرابع من معاوية، اذ ان الظروف الخارجية لن تؤثر في موقفه، على الرغم من انه يعرف جيدا نوعية جيش معاوية ولهذا قال قولته المشهورة في ان يبادل جنده بجند معاوية.

ولو تحدثنا عن سيرة غيرهم من دون الائمة المعصومين ، لهالتنا مواقفهم.

فهذا الخليفة الاول ايو بكر الصديق لم يسكت على من ارتد عن الاسلام وامتنع عن دفع الجزية فقاتلهم ولم يأبه بالظروف الخارجية ، خاصة وان الاسلام وقتذاك كان في اضعف حالاته.

وكذلك موقف الامام احمد بن حنبل في ما سمي بمحنة خلق القرآن، نجده لم يهادن ، وظل متمسكا برأيه (اعتقاده) على الرغم من ظروف الظلم والاستبداد وظروف سجنه الصعبة.

ومن خارج الوسط الاسلامي يمكن ان نذكر الكثير من المواقف التي لم تؤثر فيها الظروف وتغيرها ، ويحضرني منهم ،موقف العالم غاليلو، والقديسة جان دارك .

***

واخيرا نقول : ان العصمة عن الوقوع في المحظور والمحذور (مهما كان نوعهما) هي موهبة الاهية وضعها الله سبحانه في عقول بني الانسان ، فإن ارادوا العمل بها، فلهم خيرها، وان ارادوا تعطيلها ، فعليهم شرها.

وبهذا يتساوى كل بني الانسان ، لهذا يقول سبحانه في كتابه الكريم :

(( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين)). [الجاثية - 19 ]

والمتقون احباب الله وسيدخلهم جنات عدن.

أي ان الظروف الخارجية التي يصنعها الظالمون لم تغن شيئا.

وهي عمل عقلي انساني.

والائمة بهذا الامر هم اجدر الناس به ، فهم معصومون من حيث انهم لا يفعلون المعاصي.

فلماذا هذا الجدل الذي يدور بين الشيعة والسنة حولها؟

لماذا ينكر السنة على الائمة عدم فعلهم المعاصي بإرادتهم، وكل انسان مهما كانت قوميته او ديانته يستطيع منع نفسه من الوقوع في المعاصي بإرادته، طالما ان العصمة كما يعتقد بها الشيعة هي امر عقلي تابع للارادة؟

يقول البغدادي : ((وبالإجمال ان الإمام المعصوم لا يترك واجبا أبدا ولا يفعل محرما مطلقا مع قدرته على الترك والفعل وإلا لا يستحق مدحا ولا ثوابا . والشيعة هي التي تشترط العصمة - بهذا المعنى - في الإمام كما هي شرط في النبوة)). (2)

اذن، فالامام له القدرة على فعل المعاصي ، الا انه لا يفعل ، وكل انسان يمكنه ذلك.

اما القول بغير ذلك لاسباب سياسية وايديولوجية ، فقد قال به الغلاة ، ومنهم ظل اعتقادا راسخا عند ابناء المذهب.

اذن ، آن الاوان لفك الاشتباط بين السنة والشيعة في هذه القضية.

‏الاربعاء‏، 29‏ كانون الأول‏، 2010

***

الهوامش:

1 –التحقيق في الإمامة و شؤونها - عبد اللطيف البغدادي - ص 60 – 66.

2 – المصدر السابق - ص 60 – 66.

الأحد، 26 ديسمبر 2010

ذكرى واقعة الطف ومفهوم الشعائر الحسينية



ذكرى واقعة الطف ومفهوم الشعائر الحسينية

من وجهة نظر شرعية للامام الشيخ حسين المؤيد

داود سلمان الشويلي

(( ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعى بدعوى الجاهلية )).

(( تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب )).

الرسول الاعظم (ص)

بداية علينا ان نؤكد على مسلمات انسانية ، وهي مسلمات اخلاقية قيمية متعارف عليها انسانيا ، اولها : ان الظلم حالة غير انسانية.

وثانيها : ان الوقوف بوجه الظالمين حق تكفله الشرائع الانسانية منذ بداية وجود الظالمين عبر التاريخ.

وثالثها : هو تمجيد هذا الواقف بوجه الظالم والظالمين .

اما على المستوى الديني – الدين الالهي لا الفكر الديني – (1) فقد جسد الدين تلك المسلمات الانسانية من خلال تقنينها وتشريعها ضمن البنية الدينية الالهية المنزلة.

ووقفة الامام الحسين بن علي ضد ظلم يزيد بن معاوية وما يمثله كملك من ملوك الدولة الاموية (2)، لا تخرج من تلك المسلمات الانسانية والدينية كذلك ،فهي وقفة او نهضة او ثورة ضد الظلم والظالمين – مهما كان نوع هذا الظلم ومن قام به – ، وتمجيد الامام الحسين من قبل المسلمين كافة والانسانية ايضا هو حق انساني وشرعي ، بل هو من المسلمات التي يعاب عليها أي مجتمع عند نسيانها او تناسيها .

في هذه السطور لا نريد ان ننتج قولا تم انتاجه قبلنا الاف المرات عن واقعة الطف ، الواقعة التي وقفها الامام الحسين واهل بيته وصحابته امام جيش الظلم والظالمين ، انما هدفنا هو استنطاق رأي فقهاء ومراجع الشيعة عما يرافق ذكرى التمجيد من ممارسات ( كاللطم وضرب الرؤوس بالسيوف والقامات ، وضرب الظهور بالسلاسل )اطلق عليها خطأ مصطلح الشعائر الدينية ، او الاسلامية ، او الحسينية ، وراحت مكبرات الصوت في الجوامع والحسينيات والمساجد تصدح بالاية القرآنية ((ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) [الحج -32 ]. عادين تلك الممارسات شعائر الهية.

ان الفقيه والمرجع الشيعي الجعفري الذي ستستنطق سطورنا رأيه الشرعي في الممارسات المرافقة للاحتفال بالذكرى السنوبة لواقعة الطف ، هو الامام الشيخ حسين المؤيد ، علما ان سماحته لم يخرج عن الرأي الشرعي للكثير من شيوخ المذهب الذين تصدوا لتلك الممارسات لتنزيه المناسبة مما يشينها من امور هي غريبة عنها وعن الفكر الاسلامي والعربي خاصة. (3)

***

بداية يقول سماحته عن واقعة الطف : ((لاشك في ان نهضة الامام الحسين عليه السلام لم تكن حدثا تاريخيا عابرا أو واقعة مأساوية كسائر الوقائع العادية التي تحفل بها الازمنة, وانما كانت واقعة من اهم الوقائع الكبرى التي يهتز لها الوجدان الانساني وتطبع بصماتها على الناس . وقلما يظفر المتأمل في سجل التاريخ بحادثة كحادثة كربلاء , وقضية كقضية أبي الاحرار الامام الحسين عليه السلام في اثارتها للوجدان الجماهيري وتحريكها للعاطفة الانسانية بصورة مستمرة وبالزخم نفسه الذي زلزلت به ساحة الاحداث في المقطع الذي وقعت فيه تلك الملحمة الخالدة التي ترائت للناس اسطورة في ماعرضته من مشاهد وسطرته من معاني وخلفته من آثار . وقد خلقت هذه الحادثة قاعدة جماهيرية متصلة تبنتها وتعهدت بالنضال في سبيلها هدفا وفكرا ومنهجا ورصيدا وعملا ،وكان لهذا الامر دوره في ادامة هذه القضية وترسيخها في الالباب والقلوب ، انها ظاهرة تناغم أخاذ بين هذه القضية التي توقد بحرارتها النفوس فتطفق تعبر عما يجول فيها من رؤى ومشاعر وبين هذه النفوس التي جندت لأداء وظيفتها ازاء هذه القضية كالزيت يحترق بالنار فيمونها لتبقى شعلتها ملتهبة وملهبة مادام له وجود . ))

وفي الوقت نفسه ، يعرض سماحته ما تعرضت اليه ذكرى الواقعة عبر التاريخ من ممارسات غير صحيحة لا شرعا ولا قيميا ولا اخلاقيا.

يقول سماحته : ((وقد تعرٌضت هذه القضية لافراط وتفريط ، أما التفريط فهو المحاولات غير المبررة لجعلها من الحوادث التأريخية العادية أو شبه العادية واعطائها طابعا محدودا وتسطيحها ، فضلا عن محاولات انسائها واقتلاعها من سجل الذكريات ، بل منع البعض من اظهار الحزن والبكاء وانشاد المراثي مدخلا لها في الجانب الشخصي للقضية وكانها من قبيل التفجع على موت انسان مع انها ليست كذلك جزما ,فان الحزن والبكاء والرثاء لاجل المظلومية امر تنزع اليه النفس الانسانية حسب فطرة الله التي فطر الناس عليها فكيف يحول الشارع بحكم بين النفس وما فطرت عليه وهذا غير التفجع لحادثة الموت نفسها حيث ان الموت هو قدر الله الماضي على جميع خلقه . وهذا يعبر عن جانب التفريط في القضية وهو امر لايتقبله منطق التاثير التاريخي . واما جانب الافراط فهو الذي يتعامل مع هذه القضية من خلال تضخيم بعض تفاصيلها استنادا الى روايات ضعيفة أو التركيز على جانب الماساة والمغالاة في تحريك العاطفة الانسانية ليتحول التعاطي معها الى حالة الانفعال العاطفي واهمال المحتوى العظيم والثر الذي يتصل بفلسفة هذه النهضة ودراسة ابعادها المتنوعة واستخلاص العبر والدروس منها واستنطاقها لتبقى الحادثة الملهمة على الدوام . وقد يصل هذا التركيز العاطفي الى درجة التعبير عن العاطفة وابراز التـفاعل مع المأساة بألوان واشكال من الممارسات التي تعطي صورة مشوهة عن الطريقة المعقولة في احياء الذكرى فتوجد انعكاسا سلبيا على الذكرى نفسها,بل يتسرب من خلالها الوهن الى القاعدة الفكرية التي تنطلق منها )).

من خلال هذا الطرح الشرعي يؤشر سماحته مكامن الخلل الذي اصاب ذكرى واقعة الطف / القضية من خلال ما رافقها من ممارسات هجينة عنها عملت بالضد مما اريد لذكرى تلك الواقعة على ان تبقى على مر التاريخ – بحسن نية او بدونها ، ولكنها بجهل مطبق - فكانت تلك الممارسات قد عملت على :

- تسطيح للقضية الاصل ومحدوديتها .

- محاولة نسيانها.

ومن ادوات ذلك :

- استنكار الموت – الحق الطبيعي والالهي – والجزع من الاستشهاد في سبيل قضية ما.

- المغالات في المأساة.

- صيرورة العاطفة الانسانية المسيطر عليها من قبل العقل الى انفعال عاطفي يعمي البصر والبصيرة عن كل شيء.

***

يستنكر سماحته تسمية تلك الممارسات بالشعائر ، الحسينية او الدينية او الاسلامية .

يقول سماحته اجابة عن سؤال حول ذلك:

(( لا يعد التطبير في حد نفسه شعيرة دينية ، لأن الشعيرة الدينية هي ما جعله الله تعالى من معالم دينه وعلائمه ، وليس التطبير كذلك ، فإنه لم يجعل شرعا من معالم الدين وعلائمه ، وإنما هو من مخترعات الناس وما تواضع عليه البعض لإظهار التفجع على الإمام الحسين عليه السلام ، مع أنه ليس من المصاديق المشروعة ولا الراجحة للتفجع ، ذلك أن مورد النصوص الواردة في هذا الباب هو عناوين خاصة معينة كالحزن والبكاء والتعزية والرثاء وهي عناوين لا تنطبق على مثل التطبير ولا تتسع له ، ولو فرض وجود إطلاق في هذه النصوص أو غيرها فإنه لا يشمل مثل التطبير وضرب السلاسل وما جرى مجراهما ، لانصراف الإطلاقات عنهما عرفا لعدم كونهما من المصاديق المنظورة في العرف العام والمتعارفة عقلائيا في هذا المجال ، مضافا إلى بعدها عن مذاق الشارع حسب المرتكزات المتشرعية ،الأمر الذي يوجب إنصراف الأذهان العرفية عنها في زمان صدور النصوص)) .

***

من خلال هذا الطرح الشرعي بحديه العلمي والموضوعي(العقلاني) ،يمكننا ان نقترب كثيرا من رأي سماحته الشرعي في ممارسة هذه الطقوس ونحن نعيش ايام شهر محرم الحرام – شهر عاشوراء – وذكرى استشهاد الامام الحسين وبعض اهل بيته وصحابته في واقعة الطف في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام قبل اكثر من الف وثلثمائة عام .

بداية يقول سماحته عن تلك الممارسات : (( إن هذه الأفعال تسيء إلى صورة الدين والمذهب وتشوه المضمون الحقيقي لإحياء قضية الإمام الحسين عليه السلام ، ولا شك في ذلك لا سيما في زماننا هذا ولو في الجملة فتكون محرمة بالعنوان الثانوي . وهكذا يتضح أن التطبير وما جرى مجراه لا يندرج في شعائر الدين ولا في العناوين الجائزة أو الراجحة .)).

يفتي سماحته بحرمة القيام بتلك الممارسات ، فيقول :

1 – ((أن التطبير حرام شرعا فإن الذي أقدم على تطبير غيره يلحقه الإثم لأنه إرتكب من الناحية التكليفية فعلا محرما وإن لم يترتب عليه شيء من الناحية الوضعية حسب ما ذكرناه.)).

2 - (( لا يجوز التطبير و ضرب الزناجيل . و في ذلك إشكال شرعي ، فإن التطبير و ضرب الزناجيل عمل محرم ، و ليس ذلك من الشعائر الحسينية ، و اذا أتى الشخص به على أنه من الشعائر يكون مبتدعاً و يأثم إثمين إثماً لحرمة العمل نفسه ، وإثماً للابتداع .

ولا يعتبر من الشعائر الحسينية ، و طول الممارسة لا يجعلها شعيرة ، و إنما هي عادة خاطئة و عمل محرم .((

***

وينبه سماحته الى من يريد ان يتصيد في الماء العكر ، ويجعل من فتاوي رجال الاصلاح من فقهاء ومراجع ومن تصدى لتلك الممارسات نغمة يعزفها لاستدرار عاطفة العامة من الشيعة ، فيقول :

(( إن المعارضة للتطبير وما يجري مجراه ليست معارضة للشعائر الحسينية ومن الخطأ الفاحش أن ينظر إليها على أنها معارضة للشعائر الحسينية بل هي دعوة إصلاحية لتنزيه الشعائر الحسينية وإبرازها بالصورة الصحيحة والناصعة . ولماذا يتم إختزال إحياء قضية كبرى بمستوى قضية الإمام الحسين عليه السلام بمجموعة من الأساليب التي لم يرد بها نص شرعي ولا يقبلها العرف العقلائي العام وإنما جرت عليها العادة في فترة متأخرة من الزمن)).

ويتساءل بإندهاش ونحن معه : (( لماذا كل هذا التضخيم والتهويل والتشنيع على جهود المصلحين الهادفين إلى تنقية التراث وإصلاح الأفكار والسلوك . ولعل كثيرين يتذكرون الضجة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها على مصلحين أجلاء لمجرد بيانهم لرأي أدى إليه إجتهادهم وتفكيرهم العلمي كتلك الهجمة التي واجهها الشيخ محمد الخالصي رحمه الله لمجرد أنه أفتى بعدم مشروعية الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة . والهجمة الشرسة التي واجهها الإمام السيد محسن الأمين رحمه الله لمجرد أنه أفتى بلزوم تنزيه الشعائر الحسينية من الممارسات الدخيلة)) .

و يؤكد سماحته بشجاعة العالم الواثق من نفسه ومن مبانيه الفقهية: ((الإصلاح يشق طريقه مهما كانت المصاعب جمة ولا سيما في عصرنا عصر العلم والثقافة والرشد)).

***

يرى سماحته انه من المطلوب شرعا لايقاف مثل تلك الممارسات :

1 - النصح بترك التطبير [و]هو نصح في محله ونحن ندعم الدعوة إلى ترك التطبير.

2 - [ان] ما تفعله بعض المراكز الصحية في يوم عاشوراء من فتح باب التبرع بالدم هو أمرسديد وفيه ثواب جزيل وخدمة إنسانية وهو بديل صحيح ومناسب عن الممارسات غير الصحيحة وغير المشروعة .

3 - وختاما يقول سماحته : (( أتركوا التعصب للعادات والأعراف غير السليمة التي هي ليست من الأمور التي جاء بها الدين الحنيف أو أقرها ، وليس من الصحيح الجمود أو التعصب لأمور أو أساليب أقصى ما يقال فيها إنها من اختراعات بعض العوام ظنا منهم أو اعتقادا بأنها وسيلة صحيحة للتعبير عن التفجع على الإمام الحسين عليه السلام وإحياء قضيته العادلة .

وليس من الصحيح التعاطي مع الأساليب بنحو التعاطي مع المبادئ وإن التمسك يجب أن يكون بالمبدأ وبالحكم الشرعي وليس بالأسلوب الذي يمكن إستبداله بما هوخير منه وأجدى ، وليس ترك أسلوب معين أو إستبداله بأسلوب آخر محرما أو مكروها فلماذا التشدد والتعصب لأساليب معينة جرت عليها العادة في فترة من الزمن على حساب الأساليب الناجعة والمرغوبة ، ولا شك أن التطبير وما جرى مجراه يسيء إلى القضية أكثر مما يخدمها أو يحييها.

إن الدفاع عن الشعائر الحسينية لا يكون بالدعوة إلى الأساليب المسيئة وغير المشروعة أو العادات التي تجاوزها الزمن ، وإنما يكون بالعمل على إحياء قضية الإمام الحسين عليه السلام وتحريكها في الوجدان والحياة بوصفها مدرسة بأبعادها الدينية والسياسية والإجتماعية وذلك بالأساليب التي تخدم هذه القضية ولا تسيء لها . كما إنه ليس من الصحيح مجابهة المخالفين للتطبير بما يخرج عن الشرع والأخلاق ليس إلا لأنهم دعوا إلى تنزيه الشعائر وإصلاحها فلا بد أن يحترم الرأي الأخر ولا تحاكم النوايا)).

***

الهوامش:

1- ان الاديان كرسالة الهية منزلة جاءت بعد تكون الافكار الانسانية مهما كان نوعها.

2 - ربما يستغرب البعض من تسميتي للقائمين بإدارة الدولة الاسلامية في الفترة الاموية بالملوك ولم اطلق عليهم مصطلح الخلفاء ، وهذا الاستغراب ان وقع منهم فهو استغراب يجب ان يوجه الى النبي (ص) لانه هو الذي اكده في حديثه عن ان الخلافة التي تمتد ثلاثين عاما وبعدها تصبح ملكا عضوضا .

3 - راجع كتابنا : رجال الاصلاح في المذهب الشيعي الامامي الاثني عشري المنشور على مواقع الانترنيت.

ملاحظة :

المصدر الرئيس لفتاوي سماحة الامام الشيخ حسين المؤيد موقعه الالكتروني: http://www.almaiad.com/cous.htm

المرجعية الدينية وهموم المسلمين اليوم



المرجعية الدينية وهموم المسلمين اليوم

داود سلمان الشويلي

((وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)).

[التوبة - 122 ]

كثرت في الاونة الاخيرة بعد رحيل السيد محمد حسين فضل الله (مرجع ديني جعفري لبناني الولادة والنشأة) تساؤلات من مثل (من يأخذ من يده راية تحديث الفقه؟)،ومن الذي سيملأ الفراغ بعد رحيله ، وكتابات تؤكد على اعتدالية مرجعيته .

صحيح ان مرجعية المرحوم فضل الله تتصف بالاعتدال والتحديث الى حد ما، الا ان هذا لا يعني عدم وجود مراجع اخرين تحمل مرجعيتهم مثل هذا الاعتدال وهذا التحديث.

هذا القول يدعونا الى معرفة الاسباب التي دعت مرجعيته الى ان تتصف بهذه الصفات.

ومن تلك الصفات واهمها هو انه رحمه الله ينحدر من مجتمع كان وما يزل هو المجتمع العربي الوحيد تقريبا الذي تعايشت فيه القوميات والديانات والمذاهب الدينية والمدارس الفلسفية والا جتماعية وغيرها دون انغلاق فيما بينها ، وكذلك الانفتاح على الاخر مهما كان نوعه وثقافته ، وهو المجتمع اللبناني.(1)

ومن خلال انفتاح هذا المجتمع على الاخر ، العربي والغربي ، من مسلمين وغيرهم من الديانات الاخرى ، تزود السيد بثقافة واسعة ، مما جعل افق تفكيره منفتخا ، وآلياته تتصف بالعلمية والموضوعية فضلا على عقلانيته.

ومن خلال ذلك، كانت مرجعيته الى حد ما مرجعية معتدلة ، مجددة .

والسؤال المطروح هو هل انتهى بانتقال السيد فضل الله الى جوار ربه هذا الاعتدال وذلك التجديد ؟ وهل افتقرت مرجعيات المذهب الجعفري (الشيعي الامامي الاثني عشري) من رجال يتصفون بهذه الصفات ؟

بالتأكيد سيكون الجواب كلا.

لانه فما زال هذا المذهب يفتح باب الاجتهاد ، وما زال العقل يقوم بدور فعال في ذلك الاجتهاد ، وفي فكر بعض رجاله الذين انفتحوا على الاخر بكل عناوينه ومدارسه ، وخير مثال على ذلك هو مرجعية الامام الشيخ حسين المؤيد (عراقي الولادة والنشأة) ، دون ان ننسى مراجع اخرين اخذت على عاتقها التجديد والتصحيح في فكر هذا المذهب.(2)

ان المرجعية اليوم لم تعد خاصة بتبيان الحلال والحرام ، بل دخلت في مفاصل الحياة كافة ، وان التطور الذي حصل في الحياة العامة على كافة الاصعدة ، يتطلب من الذين يتصدون الى المرجعية (بما لها من علاقة بتقريب الدين الى العامة من المسلمين ) ان يكونوا اولا وقبل كل شيء منفتحين على الاخر ، وبفهم ووعي كاملين ، وهذا لا يعني وضع ما هو ديني خلف الظهر وتجاوزه ، وتقديم تنازلات غير مشروعة لهذا الاخر، بل الانطلاق من اساسيات الدين وعدم تجاوزها مهما كانت الاسباب والدوافع ، وهذا يأتي من خلال:

- الفهم الواعي و الصحيح للنص (المقدس) ،(3) قرآن وحديث نبوي موثق صحيح من حيث السند والمتن.

- الفهم الواعي والصحيح الى ان غير القرآن الكريم والحديث النبوي، هو فكر رجال متولد تحت تأثير زمكانية اللحظة التاريخية ، وظروف المجتمع ، مع تداخل وتأثير ما هو سياسي وايديولوجي فيه ، لهذا فكل ما جاءنا من الاجيال السابقة يجب النظر فيه ومراجعته ، لانه قول رجال ونحن رجال كما يقول الامام ابو حنيفة، كالتفاسير ، وكتب الصحاحات ، وكتب التاريخ.

- استخدام المناهج الحديثة في مقاربة النص المقدس .(4)

- النظر الى ما نقتله كتب التاريخ القديمة من حوادث، نظرة موضوعية علمية متجردة من أي لبوس سياسي او ايديولوجي.

- الابتعاد كليا عن الفكر التفويضي والغالي والتعصبي والتكفيري والتواكلي، والاحتكام الى العقل الذي مجده الله سبحانه في قرآنه الكريم ، والموضوعية العلمية .

هذه الاليات وغيرها التي ترى هذه الدراسة انه من الضروري ان يعمل بها من يتصدى الى المرجعية في وقتنا الحاضر خاصة ، هي آليات نجدها عند الكثير من مراجع التقليد ، ومنهم سماحة الامام الشيخ حسين المؤيد .

فسماحته – مثلا – لا يرتكن الى ما وصله من حديث نبوي في كتب الصحاحات لكافة المذاهب ما لم يعرض هذا الحديث او ذاك الى الآليات التي تؤكد صحته سندا ومتنا ، وكذلك، وهو المهم ،عدم تعارضه مع ما جاء في القرآن الكريم ، وموافقته لفطرة الناس (العقل والمنطق السويين) التي فطرها الله فيهم.

اضافة لذلك ، فقد اسقط الكثير من الاحاديث والروايات التي رواها المفوضة والغلاة والتي ما زالت في محل تبجيل عند البعض على الرغم من ان شيوخ المذهب الاوائل وعلماء الرجال قد اخرجوا رجال سند تلك الروايات والاحاديث من خانة المصداقية والوثوقية ، بل انهم كفروهم ايضا.

فضلا عن ذلك ، فقد وضع سماحته الكثير من الحوادث التاريخية تحت مجهر النقد ، كما عمل الكثير من المراجع ورجال الدين الذين سبقوه او جايلوه ، وخرج بنتائج مفيدة تخدم الاسلام والمسلمين.

وفرق سماحته بين العقيدة الاسلامية الحقة ، ذات المرجع القرآني ، وبين الكثير من العقائد ، او المفاهيم والمعتقدات التي اراد لها البعض ان تترسخ عند المسلمين على انها عقيدة دينية منزلة من الله سبحانه .

وسفـّه سماحته ، بل كفّر ، الكثير من الممارسات والطقوس التي يقوم بها بعض المسلمين على اعتبار انها طقوس وممارسات اسلامية ، وهي غير ذلك.

ان المسلمين ، والشيعة الامامية الاثني عشرية خاصة ، بحاجة ماسة في ايامنا هذه الى مثل هذه المرجعية خدمة لوحدة الامة الاسلامية والمسلمين ، خاصة وحاجتها الى نبذ الطائفية السياسية ، والسب والشتم للكثير من الصحابة ، لا لشيء الا لاسباب سياسية ايديولوجية.

‏الاحد‏، 26‏ كانون الأول‏، 2010

الهوامش:

1– وكذلك السيد علي الامين اللبناني الولادة والنشأة.

2– يمكن مراجعة كتابنا رجال التصحيح في المذهب الشيعي الامامي الاثني عشري.

3 - ان الاسلام لم يطلق على كتابه السماوي - القرآن - صفة المقدس كما فعل اليهود والنصارى ، بل هو قرآن مجيد وقرآن كريم ، الا انني استخدمت هذه الصفة من باب المجاز لتأكيد قدسية مفترضة له عند المسلمين كافة.

4 – ممن استخدم تلك المناهج من الكتاب العرب :نصر حامد ابو زيد ، محمد اركون، محمد عابد الجابري ، محمد شحرور ، وغيرهم.