الخميس، 7 يوليو 2011

( اختلاف أمتي رحمة))




(( اختلاف أمتي رحمة))

داود سلمان الشويلي

ليس من مهام هذه السطور ان تقدم دراسة عما وجه للكتب الجامعة للحديث النبوي – في كافة مذاهب الاسلام – من نقد منذ عدة قرون ، او ما ردّ من احاديثها ، بقدر ما تريد ان تدرس دلالة حديث واحد ونحن ندخل القرن الواحد والعشرين ، وفي زمن الفضائيات وشبكة الانترنيت وثورة الاتصالات، والامة الاسلامية قد كثر فيها الاختلاف ، و زادت الفرقة بين ابنائها ، وهذا الحديث هو : (اختلاف أمتي رحمة).
إذ حيرني هذا الحديث - على الرغم من تثبيته في صدر اغلب دراساتي التي تناولت الفكر الديني الاسلامي - لاسباب منها :
ان الكثير من الايات القرآنية تدعو الى وحدة المسلمين ، أي عكس دلالاته :
(( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)). [ ال عمران:103 ]
(( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ).[ ال عمران :105 ]
وكذلك الكثير من الاحاديث النبوية – ان صحت – تؤكد الوحدة وعدم الاختلاف ، منها الحديث:
(( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى )).
فيما هذا الحديث يؤكد في احد معانية على الاختلاف ، و في الوقت نفسه يؤكد على ان هذا الاختلاف هو رحمة ، فكيف يستقيم ذلك؟.
وقد ناقش علماء المسلمين من كافة المذاهب هذا الاشكال، خاصة عندما طرحت تساؤلات عن الرحمة وعكسها النقمة ، وفيما اذا كانت الوحدة عند ذاك تعني النقمة.
فما الذي جعل هذا الحديث يصمد طيلة هذه السنوات (1) ، ويبقى محفوظا في المصادر و الصدور ، وهو يخالف ما يريده الله سبحانه؟
واذا كان الكثير من رجال الدين والدارسين يعولون على هذا الحديث على اهمية الاجتهاد في حياة المسلمين، وكذلك في الخروج الشرعي من محنة الاختلاف الحاصل بين فقهاء الامة الاسلامية بما له علاقة بالاحكام الشرعية خاصة ، فانني لا اجد في ذلك صوابا في الاختلاف حول الاحكام المنصوص عليها في القرآن (حبل الله)على اقل تقدير.
و بعيدا عن الاختلافات العقدية، يمكن رصد مجموعة من الاختلافات الحاصلة بين المسلمين بما له علاقة بالحلال والحرام في نكاح النساء (2) ، والاطعمة (صيد البر والبحر) (3) ، والصلاة (4)، ورؤية الهلال لمعرفة بداية ونهاية الشهور (5) ، على سبيل المثال لا الحصر.
***
امثلة من الحياة اليومية:
مثال / 1: جاء رجل مسلم يتعبد الله على مذهب يحلل اكل لحم الارنب، وسمك (الجري) الى صديق ، او نسيب ، او قريب ، من مذهب يحرم اكلهما ، بهدية ، إما سمكة من نوع الجري ، و إما ارنبا ، فهل من الشرع والاخلاق والاداب ان يرد الهدية هذه ؟
اتساءل: هل في ذلك رحمة؟ (6)
مثال /2 : تزوج رجل يتعبد الله من خلال مذهب يجوّز له الجمع بين المرأة وعمتها او خالتها، او العكس(7) بإمرأة من مذهب لا يرى حلية ذلك الجمع (8) ولاسباب عديدة (العقم مثلا) ارادت زوجته نفسها ان يتزوج باخرى ، فاحب الزوج ان يتزوج بعمتها او خالتها ، او العكس ، لحبه لزوجته ولا يريد امرأة غريبة ان تكون ضرتها ، فهل توافق عائلة هاتين المرأتين إعطاء ابنتهم زوجة لذلك الرجل ليجمع بينها وبين خالتها او عمتها ، او العكس؟
بالتأكيد الجواب : كلا.
اتساءل: هل في ذلك رحمة؟
مثال /3 : ان الصلاة ركن من اركان الاسلام ، ولها اوقتها المحددة ، وبعيدا عن مسألة الجمع بين صلاتين او عدمه ، ستتناول هذه الدراسة مسألة الاختلاف بين المسلمين في وقت صلاة المغرب خاصة، لما لها من علاقة بوقت الافطار عند الصيام .
فالشيعة يرفعون اذان المغرب ومن ثم يقيمون الصلاة ويفطرون عند غياب الحمرة المشرقية ، فيما السنة ، يتقدمون عليهم ، فيرفعون اذان المغرب ويقيمون الصلاة عند سقوط قرص الشمس عن الأفق.(8)
فإذا كان المسلمون مختلفون في وقت الصلاة التي شرعها الله في محكم كتابه ، فكيف نريد من المسلمين ان يتوحدوا وهم مختلفون في اداء هذه الفرض ؟
اتساءل: اين هي الرحمة في ذلك؟
لم اجد لتأويل ذلك الحديث – ان صح - والوصول الى دلالته مخرجا - على الرغم من كل التخريجات التي جاء بها السلف من علماء الاسلام - سوى في لفظة (الاختلاف) التي لها معنى اخر معروف معجميا وهو ليس المخالفة، وانما (التردد) على شخص (او جهة) ما للبحث عن العلم والتزود منه.
اذن ، الحديث يؤكد على البحث عن العلم و التزود منه، وليس الارتكان الى ما بين ايدينا ، من خلال السؤال والمحاججة، والبحث عن الدليل وغير ذلك.
اذن، علينا ان نتأكد من صحة الاحاديث – خاصة بما يتعارض مع صريح القرآن الكريم - على الرغم من ان الكثير من العلماء المسلمين قالوا كلمتهم في الكثير منها . (10)
--------------------------------
الهوامش:
1 - راجع على سبيل المثال ، مناقشة الحديث في: (شرح مسلم - النووي - ج 11 - ص 91)، و : (فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي - ج 1 - ص 271)
2 - قال تعالى في سورة النساء/23 :" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ".
و وقع الاختلاف في مسألتين ، هما:
الاولى : مسألة الرضاعة : فكل مذهب اسلامي شرّق وغرّب في عدد الرضعات التي تسبب التحريم.
الثانية: الجمع بين البنت وعمتها او خالتها ، او العكس . اذ اختلفت المذاهب في حلية اوحرمة هذا الجمع ، ومن يريد معرفة اكثر حول هذه المسالة فليراجع كتب الفقه لكافة المذاهب، مع العلم ان الله لم يذكر ذلك في هذه الاية.
ورب قائل يقول : ان الرسول (ص) قد بين ذلك في سنته.
نرد عليه قائلين : ولماذا اختلف المسلمون في هذه السنة النبوية؟
هل جاء هذا الاختلاف تحت تلك اللافتة / الحديث (اختلاف امتي رحمة) ؟ ام جاء من لافتة اخرى ذكرها الكليني في الكافي ص 67 عن الامام ابي عبد الله – حسب اسناده - :
(( ... قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة ، قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد)).
3 - قال تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون" [المائدة:96 ].
4 – "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" [البقرة:238 ] .
"وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين" [هود:114 ] .
"أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ".[الاسراء:78 ]
5 – راجع دراستنا (الاهلة الشرعية - بين الرؤية البصرية والحسابات الفلكية - وحدة الامة الاسلامية في فكر الامام الشيخ حسين المؤيد ) .
6- للذوق البشري – بعيدا عن حلال الاطعمة وحرامها - امر اخر لا يتدخل فيه الشرع سوى بما يؤدي الى التهلكة .
7– يحلل فقهاء الشيعة هذا الجمع مع الفارق في ايهما الزوجة الاولى لان في ذلك شروط. راجع على سبيل المثال : المقنعة - الشيخ المفيد - ص 504. و : وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 20 - ص 486 .
و : منهاج الصالحين – ج3 – السيد السيستاني .
فيما يحرم بقية المسلمين هذا الجمع . راجع : صحيح البخاري - البخاري - ج 6 - ص 128. و : صحيح مسلم - مسلم النيسابوري - ج 4 - ص 135 .
8 - كل فقهاء الشيعة يحللون هذا الزواج المتبادل ، الا ان الفضائيات نقلت لنا تحريم احد المعممين الشيعة الغلاة و المتعصبين ذلك، لان المرأة او الرجل – حسب قوله – غير موالين للامام علي .
9 - افتى المرجع الديني الجعفري سماحة الامام الشيخ حسين المؤيد ، بصحة صلاة المغرب بمجرد سقوط قرص الشمس عن الأفق . راجع مناقشة هذه المسألة في كتابنا : التصحيح والتجديد في الفكر العربي الاسلامي - عند سماحة الامام الشيخ حسين المؤيد - الكتاب الخامس – المستدرك ، منشور على شبكة الانتلانيت.
10- جاء في (نماذج من الأحاديث الموضوعة أو المشكوكة - مركز المصطفى (ص) ) : (( قال الحافظ العراقي : " حديث اختلاف أمتي رحمة : ذكره البيهقي في رسالته " الأشعرية " تعليقا وأسنده في " المدخل " من حديث ابن عباس بلفظ : إختلاف أصحابي لكم رحمة . وإسناده ضعيف ". وقال الحافظ محمد بن طاهر : " في ( المقاصد ) : إختلاف أمتي رحمة . البيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رفعه في حديث طويل بلفظ : إختلاف أصحابي لكم رحمة . وكذا الطبراني والديلمي : والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقال العراقي : مرسل ضعيف ". وصرح محمد ناصر الدين الألباني المعاصر بأنه لا أصل له ، ونقل كلمات جماعة في ذلك )) .
فيما جاء في كتب الشيعة عن الامام الصادق ان الاختلاف هذا مصدره اختلاف البلدان . (راجع على سبيل المثال : علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 85).

الثلاثاء، 5 يوليو 2011

الاهلة الشرعية بين الرؤية البصرية والحسابات الفلكية



الاهلة الشرعية

بين الرؤية البصرية والحسابات الفلكية

وحدة الامة الاسلامية في فكر الامام الشيخ حسين المؤيد

داود سلمان الشويلي

(( يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج )).

[البقرة:189 ]

للهلال ورؤيته عند العرب دور كبير في حياتهم على كافة المستويات ، وعندما نزلت الرسالة الاسلامية ، سأل العرب – المسلمين خاصة – نبيهم عنه وعن الفائدة منه ، فنزلت اية الاهلة في سورة البقرة التي اكدت على ان الاهلة قد خلقها الله سبحانه لتساعد الناس على معرفة المواقيت وليس لها وظيفة اخرى ( سحرية مثلا )غير ذلك.

فمن مواقيت الناس – المسلمين خاصة – التي تعرف بالاهلة على سبيل المثال:

- موسم الحج.

- بداية ونهاية المناسبات الدينية.

- اوقات المعاهدات والمواثيق.

ثم اضيفت الكثير من المواقيت بعد وفاة النبي (ص)،منها على سبيل المثال:

- معرفة رأس السنة الهجرية ، وضبط التـأريخ.

- المواليد والوفيات.

الا انه ومن خلال مسيرة الزمن وقع احتلاف بين المسلمين في تحديد اهلة اشهر رمضان وذو الحجة ومحرم خاصة، بعد ان اتسعت الرقعة الجغرافية للمسلمين ، وظهور المذاهب ، والسبب الرئيس كما هو معروف هو عملية الرؤية البصرية للهلال ، وظل معنى لفظة (الرؤية التي تعني النظر بالعين المجردة) التي وردت في حديث نبوي – ان صح – مفاده : (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) ، ثم زادوا الشيعة على هذا الحديث زيادة اكدوا فيها الرؤية البصرية وليس القول بالرأي او بالظن كما في الحديث المروي عن الباقر ، قال : (اذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا وليس بالراي ولا بالتظني ولكن بالرؤية).(1) ، كما كان وقت الرسول (ص)،مع العلم ان الرؤية هي طريق لمعرفة ميلاد الهلال ، والرؤية البصرية المجردة هي الطريق الوحيد في ذلك الوقت لرؤية ولادة الهلال ، اما بعد ان تقدم علم الفلك ، اصبح لدى الناس طريقا اخر لمعرفة ولادة الهلال .

اتخذت بعض الدول الاسلامية الطريق الفلكي لتحديد ولادة الاهلة ، فيما ظلت الكثير من الدول والمجتمعات والمذاهب الاسلامية تعتمد الرؤية البصرية ، فوقع الاختلاف ، وتعددت ايام المناسبة الواحدة كما حدث اكثر من مرة في بلد اسلامي وفي مذهب واحد حتى وصل الحال في احد الاعياد الى ان يكون اوله عدة ايام.

لقد امرنا الله ان نستخدم عقلنا ، ونبحث عن الطريق الصحيح والسهل والدقيق للوصول الى ما نريد .

قال سبحانه:

(( يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان)). [الرحمن: 33 ]

والسلطان هنا هو الوسيلة .

وقد اوضح سماحة الامام الشيخ حسين المؤيد الطريقة الفلكية لمعرفة ولادة الاهلة في دراسة مهمة ، جاء فيها:( 2)

(( لا يخفى أن القمر جسم كروي تابع للأرض , يتحرك من الغرب إلى الشرق حول نفسه وحول الأرض في وقت واحد دورة كاملة تستغرق زماناَ معيناَ قدره علماء الفلك بسبعة وعشرين يوماَ وسبع ساعات وثلاث وأربعين دقيقة وسبع ثوان . وبما ان الأرض أثناء دورة القمر حولها والتي تسمى بالدورة النجمية للقمر تكون قد غيرت موقعها من الشمس حسب حركتها الانتقالية فلذا لا تكفي مدة الدورة النجمية لكي يعود القمر إلى الموقع نفسه الذي كان فيه عند بداية الدورة على الخط نفسه بين الأرض والشمس , وإنما يحتاج إلى مدة أضافية لكي يعود فيتوسط الأرض والشمس , بمعنى انطباق مركزه على الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس .
وقد قدر علماء الفلك المدة التي يستغرقها القمر في حركته حول الأرض بدءَ من خروجه من موقعه بين الأرض والشمس في بداية دورته إلى أن يعود إلى الموقع نفسه عند انتهاء هذه الدورة بتسعة وعشرين يوماَ واثنتي عشرة ساعة وأربع وأربعين دقيقة وثلاث ثوان هي مجموع المدة التي تستغرقها هذه الدورة التي يصطلح عليها الدورة الاقترانية كما يصطلح على حركة القمر حول الأرض في هذه الدورة اسم الحركة الاقترانية بلحاظ أنها تبدأ من حين اقتران القمر بالأرض والشمس أي وقوع القمر بين الأرض والشمس على الخط نفسه كما تقدم وتنتهي بهذا الاقتران , ويطلق على هذه المدة اصطلاح ( الشهر القمري الحسابي ) ويراد به الزمان الواقع بين التقارن الحاصل في بداية الدورة الاقترانية والتقارن الحاصل في نهايتها , وهو زمان ثابت لا يختلف على مر العصور . وعلى مدى الدورة الاقترانية للقمر لا يحصل أي تغيير في حالات القمر نفسه مع قطع النظر عن مناظره بالنسبة لسكان الأرض , فهو يدور في السماء حول الأرض كما هو دون أي تغيير , وأما مناظره المتنوعة لسكان الأرض والتي تسمى بأوجه القمر فهي تعبر عن مقدار ما يظهر من الوجه المضيء للقمر لسكان الأرض ذلك أن القمر كالأرض يواجه نصفه الشمس فيكون مضيئاَ ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه نهاراَ , بينما يكون النصف الأخر بحكم عدم مواجهته للشمس مظلماَ ويكون الوقت في المناطق الواقعة فيه ليلاَ وكلما يدور القمر تنعكس الحالة فتصبح المناطق النهارية ليلية والمناطق الليلية نهارية , فالقمر جسم مظلم إلا أن أشعة الشمس تضيء نصفه المقابل لها , بيد أن المقدار المضيء الذي يظهر لسكان الأرض يختلف باختلاف موقع القمر من الأرض ,فحينما يكون القمر بين الأرض والشمس على الخط نفسه لا يظهر لأهل الأرض شيء من نصفه المضيء , لان حجم الأرض الصغير لايتيح لسكان الأرض في أية نقطة كانوا أن يواجهوا شيئاَ من وجه القمر المضيء , وهذا ما يسمى بالمحاق. وحينما يخرج القمر عن موضع المحاق يظهر لسكان الأرض جزء يسير من وجهه المضيء على شكل خط رفيع من النور يسمى (الهلال) ثم يأخذ الجزء المنير بالازدياد كلما ابتعد القمر عن موضع المحاق حتى اذا مضت سبعة أيام صار على شكل نصف دائرة ويسمى التربيع الأول ثم يأخذ بالازدياد عن نصف الدائرة ويسمى حينئذ بالأحدب , وفي اليوم الخامس عشر تتوسط الأرض بين الشمس والقمر فيظهر القمر لسكان الأرض على شكل دائرة كاملة ويدعى حينئذ ( البدر) ثم تتكرر الأوجه السالفة لكن على عكس ما سبق اذ يأخذ المقدار المضيء بالتناقص حتى يصبح خطاَ كما كان في أول ظهوره لكن لا يسمى حينئذ هلالا , لان اسم الهلال خاص بالخط المضيء الذي يظهر عند خروج القمر من المحاق ثم يدخل القمر في موقعه الأول بين الأرض والشمس وهو موضع المحاق. وهكذا يتضح ان الحالات المزبورة للقمر لا تعبر عن تغير في القمر نفسه أثناء دورته حول الأرض وإنما تعبر عن الحالات التي يظهر فيها جزؤه المضيء لسكان الأرض أثناء هذه الدورة . والمدة التي يستغرقها القمر منذ خروجه من المحاق بحيث يكون ممكن الرؤية لسكان الأرض أي منذ ظهور خطه الرفيع من وجهه المضيء والمسمى بالهلال الى ان يظهر من جديد تسمى الشهر القمري الهلالي الفلكي والذي يبدأ بأول زمان إمكان رؤية الهلال ولا يكون هذا الشهر الا تسعة وعشرين يوماَ او ثلاثين يوماَ ولا يعود هذا الترواح إلى طول الدورة الاقترانية وقصرها لان الدورة الاقترانية للقمر لها زمان ثابت معين ليس فيه تفاوت ابداَ وإنما يعود الى اختلاف المقامات والأوضاع الفلكية الدخيلة في الرؤية .وقد تقدم ان الشهر الهلالي الفلكي يتراوح بين تسعة وعشرين يوماَ وثلاثين يوماَ وهذا لا يعني عدم امكان توالي أكثر من شهر بمدة واحدة . فقد يتوالى شهران او ثلاثة مدة كل منها تسعة وعشرون يوماَ أو ثلاثون يوماَ , نعم لا يمكن توالي أربعة أشهر كل منها تسعة وعشرون يوماَ , ولا يمكن توالي خمسة اشهر كل منها ثلاثون يوماَ ، فأقصى مقدار ممكن لتوالي الأشهر المؤلفة من تسعة وعشرين يوماَ هو ثلاث مرات وأقصى مقدار ممكن لتوالي الأشهر المؤلفة من ثلاثين يوماَ هو أربع مرات .ويتضح مما تقدم ان الفارق بين الشهر القمري الحسابي والشهر القمري الهلالي الفلكي يكمن في ان الأول يعبر عن المدة الواقعة بين الاقترانيين المتتاليين اي المدة الواقعة بين المحاقين , بينما الثاني يعبر عن المدة الواقعة بين الهلالين . ولتوضيح ذلك أكثر نقول ان للقمر منذ دخوله موضع المحاق إلى إمكان رؤيته هلالاَ ثلاث حالات .

الحالة الأولى : تقارنه مع الأرض والشمس حين تنطبق الدائرة الظاهرة منه على الدائرة المستضيئة من شعاع الشمس فلا يرى لان نصفه المواجه للأرض مظلم وبتعبير آخر حين ينطبق مركز القمر على الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس .

الحالة الثانية : حالة كونه تحت الشعاع وذلك بعد خروجه من المقارنة . وهو في هذه الحالة غير قابل للرؤية , فان دقة القطر المضيء من القمر تمنع من رؤيته الى ان يبعد عن الشمس بمقدار يصير معه ممكن الرؤية لسكان الأرض , وقد يطلق المحاق على ما يعم هذه الحالة وقدرت مدة مكث القمر تحت الشعاع بعد خروجه من المحاق بست عشرة ساعة. تقريباَ .

الحالة الثالثة : حالة خروجه من تحت الشعاع . وقد قرر ان القمر اذا خرج من تحت الشعاع تصبح من الممكن رؤيته , ومن هذا الحد يبدأ الشهر الهلالي الفلكي وهكذا يتضح ان مبدأ الشهر القمري الحسابي يتقدم على مبدأ الشهر القمري الهلالي الفلكي , وان مدة الشهر القمري الحسابي ثابتة لا تتغير بخلاف مدة الشهر الهلالي فانها متراوحة حسب اختلاف المقامات والأوضاع الفلكية الدخيلة في الرؤية .ونستخلص مما تقدم نتيجتين :

الأولى : ان خروج القمر من المحاق لا يستلزم إمكانية رؤية الهلال , بل لا يكفي خروجه من المحاق ليصبح ممكن الرؤية .

الثانية : ان خروج القمر من تحت الشعاع يستلزم إمكانية رؤية الهلال في نقطة ما على سطح الأرض .وقد يبرهن على القضية الثانية من خلال طي مقدمات ثلاث :

الأولى : ان القمر لا يمكن ان يرى بعد خروجه من تحت الشعاع الا بعد غروب الشمس لان أشعة الشمس القاهرة تمنع من رؤيته .

الثانية : ان الأرض لما كانت تدور حول نفسها دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة ومن خلال هذه الدورة يتحقق الليل والنهار في كل بقاع الأرض - لان ما يواجه الشمس منها يكون الوقت فيه نهاراَ والقسم الأخر بحكم عدم مواجهته للشمس يكون ليلاَ - فانه في كل ان يتحقق شروق وغروب طيلة هذه الحركة اذ تشرق الشمس على ناحية وتغرب عن أخرى .

الثالثة : ان إمكانية رؤية الهلال تتحقق نتيجة وصول القمر في سيره حول الأرض إلى أفق المنطقة التي تغرب عنها الشمس فيمكن ان يرى بمجرد خروجه من تحت الشعاع حيث تكون دائرة انعكاس نور القمر على الأرض خارجة عن دائرة انعكاس شعاع الشمس عليها لكي يظهر نور القمر ولا تمنع أشعة الشمس القاهرة من رؤيته .

فينتج من تلكم المـقدمات ان خروج القمر من تحت الشعاع يستلزم إمكان رؤية الهلال في نقطة ما على سطح الأرض لان خروجه يتزامن دائماَ مع تحقق الغروب في نقطة ما من الأرض حيث تكون دائرة انعكاس نور القمر خارجة عن دائرة انعكاس شعاع الشمس فيصبح الهلال ممكن الرؤية في تلك المنطقة اذا لم يمنع من رؤيته مانع ويتضح أيضا ان البلدان متفاوتة في إمكانية الرؤية وليست على نسق واحد ,وهو أمر طبيعي يفرضه اختلاف مواقعها على خطوط الطول والعرض . وقد عرفت ان الشهر القمري الهلالي الفلكي إنما يبدأ بخروج القمر من تحت الشعاع بحيث يكون هذا الخروج موجباَ لامكان رؤية الهلال. وبما ان الشهر القمري الهلالي شهر قمري طبيعي لذا يصح القول ان الشهر القمري الطبيعي اذا كان هلالياَ لا حسابياَ يتزامن دائماَ مع إمكان الرؤية اذا لم يمنع منها مانع . )).

و هذه الدراسة التي تهدف إلى (( تأصيل نظرية فقهية تجمع المسلمين جميعاَ على وقت واحد في صيامهم وأعيادهم وما شاكل )) جاءت إيمانا منه (( بالحاجة إلى تفعيل الفكر الديني من خلال الاجتهاد والتجديد بما يحافظ على أصالة البحث الفقهي مع رؤية عصرية لتقديم الفقه الإسلامي بصورة ناصعة تجعله يواكب الحياة المعاصرة ويلبي حاجات الواقع الراهن )).
وقد اثبت من خلالها بما لا يقبل الشك الشرعي في ان الحسابات الفلكية ، هي طريق شرعي لمعرفة الاهلة (بداية وانتهاء) ، لهذا نراه قد اعتمدها طريقة شرعية في مرجعيته الرشيدة.

ان الغاية التي كانت تقف خلف هذه الدراسة ، ومن ثم الاعتماد على ما جاء فيها في بناء فتواه الشرعية ، هي لما رآه سماحته من اختلاف بين المسلمين في معرفة المناسبات الدينية .

يقول في مقدمة دراسته : ((أضحت قضية اختلاف المسلمين في ضبط مناسباتهم الدينية ولا سيما تحديد بداية شهر رمضان المبارك وبداية عيد الفطر ظاهرة تتكرر كل عام لتكون مظهراَ مؤلماَ يضاف إلى سائر مظاهر التفرق والتشتت التي تعانيها الأمة الإسلامية , وما تحدثه من تخلخل على الصعيد العملي أحوج ما يكون المسلمون جميعاَ إلى تجاوزه ليعيشوا مناسباتهم مجسدين وحدتهم وتماسكهم ولتحتفظ هذه المناسبات بما يليق بها من عظمة وتألق بدلاَ من أن تتميع وتكون باهتة, وليرتفع القلق والحرج اللذان يسببهما الاختلاف في المواقيت عن المسلم الحريص على امتثال الأحكام الشرعية في مواقيتها الدقيقة التي وقتت لها والحريص على أداء الطاعات والقربات التي وقتت بأيام معينة أو ليال خاصة بشكل مضبوط زمانياَ رجاء اغتنام الثواب الجسيم الذي اعد للعاملين .)).

الهوامش:

1 – راجع دراسة الشيخ المؤيد لكي يجتمع المسلمون على يوم واحد - اعتماد الولادة الفلكية القطعية للهلال.

2 - لا يعني هذا انه مبتكر هذه الطريقة وتلك الحسابات ، الا انه قدم تلك الطريقة بصورة مبسطة واعتمدها في مرجعيته.

‏الاربعاء‏، 29‏ حزيران‏، 2011