السبت، 29 ديسمبر 2012






ايام لا تنسى
ما يشبه المذكرات

الولادة والطفولة والصبا

داود سلمان الشويلي

    الناصرية مدينة هادئة تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات ، وعلى التخوم الجنوبية لصحراء واسعة تمتد حتى تلتقي بالصحراء السعودية . وهي مدينة انشإت نهاية القرن الثامن عشر بعد ان تم الاتفاق بين الوالي العثماني في بغداد في ذلك الوقت وناصر باشا السعدون لاجل توطين القبائل الرعوية المتنقلة في العراق ، وبعد ان استشار ناصر اخوته حول ذلك طلبوا منه انشاء هذه المدينة في منطقة يمكن ان يغرقوها بمياه الفرات لو حاولت الدولة الهجوم عليهم ، فإختار الموقع الحالي للمدينة القريب من (روف) ابو جداحة. (1)
    في هذه المدينة ولدت .
    كما يذكر دفتر النفوس الدفتري القديم ، انني ولدت عام 1952 م ، ولا اعرف ان كان هذا التاريخ صحيح ام لا ، في منطقة السراي في زقاق يقع على الجانب الايسر لنهاية شارع الحبوبي (عكد الهوة)(2) في بيت (البناء) حسن هندية – كما تذكر والدتي رحمها الله – وبعدها انتقلت عائلتي الى بيت مبني من القصب والبواري (3) في ارض خاصة للحاج موسى الهايس – وهو ابن عمة والدي – وكان يشاركنا البيت ابن عمتي الحاج مهدي ووالدته المتوفى عنها زوجها (4) وزوجته ، ولا اذكر من هذه الايام سوى ذكرى غائمة عن جرح قدمي بواسطة بقايا قنينة زجاجية لمشروب(السيفون) الذي كان يبيعه الشاب المعوق (دحام) في الشارع الذي نسكن فيه .
    في عام 1955 وبعد ولادة اخي مالك انتقلنا الى دارنا الجديدة التي اشترى والدي وابن اخته الحاج مهدي ارضها وتم بناء صريفتين من البواري والقصب ، واذكر انني كنت ارافق والدي عندما كان يبني الواجهة الطابوقية للبيت . وكان مكانه في الشارع الاخر لشارع ثورة العشرين بالقرب من بناية ماكنة انتاج الطاقة الكهربائية للمدينة التي كانت تعمل بالديزل وكان صوت محركاتها عاليا ولا يدعنا ننام . (5)
******
    كان والدي- رحمه الله -  يتيم الاب و وحيد امه بين فتاتين ، هما زهرة – ام مهدي - ، وروبية – ام صادق – وعرفت من خلال بعض الاحاديث المتفرقة التي كان يروي فيها والدي بعضا من جوانب حياته عندما كنت اسأله ، انه عمل صبيا في صناعة الكعك ، وعامل بناء . وفي يوما ما جاء بإجرته اليومية الى امه وكانت بالقرب منها جارتهم – وحسب اعتقاده انها كانت تحسد – فقالت المرأة لامه انها عندها ولد يأتي بالنقود ، وعندها كما يقول رحمه الله حس بحكة براحة يديه ، وبقيت هذه الحكة الى ان مات – رحمه الله – وكانت راحتي كفيه تتورمان بين فينة واخرى .(6) 
     عدنما اصبح شابا ذهب الى البصرة للعمل في معسكرات الانكليز ، وهناك تعرف على خالي وعائلته ، ثم اخذ يعمل في البناء ، وكانت والدتي رحمها الله متزوجة من ابن عمها ومطلقة منه ، فتعرف عليها والدي وتزوجها وجاء بها الى الناصرية ، فولدت طفلين – ذكر وانثى – ماتوا وهم اطفال ، بعدها ولدت شقيقتي نظيرة – رحمها الله – ثم ولدتني ، وبعدها ولدت شقيقتي اطال الله في عمرها اميرة ، ثم جاء شقيقي مالك ، ومن بعدها جاء عمار الذي توفي عندما كان صغيرا .
    على جلدة رأسي ورأس شقيقتي نظيرة – رحمها الله – اثار (كي) ، ذكر لي والدي ووالدتي- رحمهما الله – اننا مرضنا بالتايفوئيد وعندما ارسلونا الى الطبيب اليهودي الوحيد في الناصرية نصح والدي ان يرسلونا الى من يكوي رأسنا بالعطابة .
    اذكر من تلك الايام ان والدي كثيرا ما كان يأخذنا لمشاهدة بعض الافلام السينمائية في سينما الاندلس القريبة من المقهى التي كان يجلس فيها ، وايضا- في الليالي التي لم يأخذنا والدي الى السينما - كان ابن عمتي الحاج مهدي يرافقنا ليليا الى المقهى التي كان يجلس فيها والدي ليأخذنا من هناك الى دار السينما .
    ومن ذكريات تلك الايام الخوالي ، وعندما كنت في نهاية الدراسة الابتدائية او بداية الدراسة المتوسطة ، اجبرت والدتي – رحمها الله – ان تعطيني مبلغا قدره (6. فلس) للذهاب الى دار سينما الاندلس لمشاهدة الفيلم الهندي الجديد (سنكام) وكان فيلما طويلا بحدود اربع ساعات(7) ، وقد جاء معه مندوبين من شركة الاستيراد من بغداد كي يراقبوا عرضه في السينما كاملا ، وبعد انتهاء عرض الفيلم خرجنا – وكان الفصل شتاء- وقد اظلم الجو ، وعندما وصلت الى بيتنا ضربت بكف يدي على شباك غرفتنا المطل على الشارع – اشارة للذي داخل الدار ليفتح لي باب الدار – فسمعت والدتي تصيح : اشرد ابوك اجاك .
    فتركت النعال في الشارع ورحت اركض ووالدي بيده الحزام الجلدي يتبعني لضربي لتأخري عن البيت ولاجبار والدتي على اخذ النقود ، في الشارع واجهني جاري – ابو حميد رحمه الله – فاختبأت خلفه ، فطلب من والدي ان يتركني ، وذهبت مع ابي حميد الى داره وبعد دقائق ارسل والدي بطلبي .
    وكذلك من ذكريات تلك الايام ، ان والدي كان يمتلك دراجة هوائية لتوصله الى اماكن عمله ، وكنت انا وشقيقتي – ام حيدر رحمها الله – نخرجها الى الشارع عندما كان يتركها في البيت ، لاقوم ان بركوبها ، وتقوم شقيقتي بمسكها لكي لا اقع ثم تدفعني ، وفي احد المرات دفعتني شقيقتي قويا ، فراحت الدراجة تسير بي وبعد فترة لم استطع السيطرة عليها فوقعت بي الى الارض وانكسر (البايدار) فجئنا بالدراجة الى البيت وكأن شيئا لم يحدث ، بعدها ذهبنا الى دار ابن عمتنا الحاج مهدي وجلسنا بالقرب من عمتنا العمياء ، فسألتنا ان كان هناك قد حدث شيء ما ، لاننا لاول مرة نأتي بمثل هذا الوقت فأخبرتها شقيقتي بما حدث ، في هذه الاثناء عاد والدي الى البيت وعرف بأمر الدراجة من خلال رؤيتها في مكانها في الممر وقد كسرت ، فسأل والدتي وعرف ، عندها جاء الى بيت اخته ، فطلبت عمتي مناان نختبيء تحت السرير ، وطلبت من والدي ان لايضربنا لان الوقت ليلا (ولا يصلح الضرب بالليل ) ، وهكذا تخلصنا من هذه المشكلة.
******
    اذكر انه في تلك الايام وفي ليلة التاسع على العاشر من شهر محرم (عاشوراء )، كنت انا واترابي من ابناء الجيران نستعد للسهر في هذه الليلة ( يسمى السهر بالحجة) وذلك بشراء السيكاير (يسمح لنا الاهالي بالتدخين في مثل هذه الليلة من كل عام) والكعك ، وكنا – على شكل مجموعات – ندور في الشارع راكضين وبيدنا الاعلام السوداء ونحن نهتف بأقوال نمجد الامام علي وابنه الامام الحسين ، وبعد منتصف الليل نذهب الى الروف القريب من دارنا لنرى منظرا بانوراميا – كما يتصوره خيالنا -  لاشخاص ومعارك تدور بينهم ، حتى يبدأ الفجر الاول بالظهور فنذهب لرؤية مواكب ضرب القامة .
    بعد ان تزوجت شقيقتي في محلتنا السابقة – السراي – تعرفت على ابناء المحلة ، مثل : عبد علي شقيق زوج شقيقتي ، صاحب انتيشه (مدرس اللغة الانكليزية فيما بعد)، دعبل ( الان هو الدكتور البيطري امير طالب ويسكن بغداد) وابناء عبد السادة ، والكثير من الصبيان الذين لا اتذكرهم بعد هذه السنوات ،وكنا في ايام عاشوراء نذهب الى منطقة الصابئة ضمن تجمع ونحن نهتف (موتوا قهر يا كفار علي بالجنة مختار ) ، ثم نذهب الى احد الدور التي تسكنها  عائلة من المذهب السني ونحن نصيح (موتوا قهر يا سنه علي بالجنه النا) ، واذكر انه خرج الينا رب العائلة وقال لنا : نعم هو لكم ، واذهبوا عنا .

--------------
الهوامش:
1- روف ابو جداحة =  أي السدة الترابية اليسرى لنهر الفرات،وسميت بـ ( ابو جداحة) لانها كانت تقدح الماء (الجريان بسرعة) بسرعة عند زيادة مناسيبه في نهر الفرات مكونا الفيضان . وقد حدث مثل هذا الفيضان بعد ولادتي اكثر من مرة ، وقد وصلت مياه الفيضان الى السدة الترابية لنهر اشطيط – حفر هذا النهير الصغير شمالي المدينة لمنع مياه الفيضان عن المدينة ، ولتصب به مجاري المياه الاسنة ، وليكوّن ما اخرج منه من تراب سدا بوجه المياه – في منطقة احياء الصالحية وسومر واريدو والبكر واور، المنطقة التي كانت تسمى قرية فرحان . 
2- تتحدث الروايات عن هذه التسمية انها جاءت بسبب عرض الشارع الواسع – نسبة لاتساع الشوارع- وانه كان مزروعا بالاشجار بصفوف جانبية ووسطية ، وكان جوه في حر صيف الناصرية منعشا ، والبعض يقول ان التنظيم الجيد لهذا الشارع جعله مكانا لمواعيد المحبين والسير فيه للتنزه . وسمي بعد ذلك على اسم الشاعر والمرجع الديني النجفي محمد سعيد الحبوبي الذي كان احد قواد الجهاد في معركة الشعيبة ضد القوات الانكليزية التي دخلت العراق اثناء الحرب العالمية الاولى ، وقد اصيب في هذه المعركة ونقل الى بيت العضاض – كما تذكر بعض الروايات حول ذلك – الذي يقع في هذا الشارع قرب القيصرية ، وتوفي فيه .
3- البارية = الواح القصب المضفورة على شكل سجادة .
4- عرفت بعد ذلك واثناء وفاتها في الثمانينات – رحمها الله – عندما سأل الدكتور المنظم لشهادة الوفاة ابنها الحاج مهدي عن حالتها الاجتماعية فأخبره انها مطلقة .
5-تركت هذه المحطة ( كانت تسمى مكينة) بعد انشاء محطة الطاقة الكهروحرارية من قبل الروس، واصبحت كراجا ومخزنا للبلدية ودائرة الدفاع المدني (الاطفاء) .
6- قضية الاعتقاد بالحسد منتشرة بين عامة الناس ، وهناك صور جدارية تركز هذا الاعتقاد ، اذ تبين الصورة عينا مرسومة داخل كف ، وتحت العين اية قرانية ، سورة الفلق:                                   
(( * قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد )) ، وكانت هذه الصورة معلقة على جدار غرفتنا . ويروي العامة من الناس ان الكف في الصورة هو كف النبي محمد عندما حسد .  
7 – كانت بطاقة الدخول الى السينما اربعين فلسا ، ولكون هذا الفيلم طويلا جدا زاد اصحاب السينما من سعر البطاقة .

--------------------------------------






2

ايام لا تنسى

ما يشبه المذكرات



الحظ

داود سلمان الشويلي



    تنوعت آليات معرفة الحظ ، او قراءة الطالع ، او كما جاء بالمفهوم المعاصر للمصطلحات "قراءة المسقبل " ، وكان الذي يقوم بمثل هذه الاعمال يسمى الكشاف والكشافة ،فكانت هناك آليات تستخدم جسيمات صغيرة كالمحار والخرز والحصو واشياء اخرى في القراءة وتسمى هذه الآلية بـ"الطش= النثر" ويسمى الذي يقوم – او تقوم – بممارسة هذه الآلية  بـ" الطاشوش او الطاشوشة"(1) ، وهناك – كالنساء مثلا- من تستخدم الذراع والكف " لقياس الحظ (!)(2)او معرفة الطالع ، اذ تقوم الممارسِة بوضع اصبع الابهام لليد اليمنى في مكان مرفق اليد اليسرى من الداخل ،ثم تمد الكف الى نهايات اطراف اصابع اليد اليسرى ، فإذا تطابق طول الكف اليمنى – من طرف الابهام الى طرف الاصبح الصغير- مع طول الساعد الى نهايات اطراف الاصابع فإن المحاولة تعاد ، واذا قصر فإن النتيجة سلبية ،والعكس صحيح بالنسبة لمن يريد ان يعرف طالعه . وهناك من يستخدم السبحة لمعرفة "الطالع ،البخت" . ومن هذه الآليات ايضا قراءة الكف .

    وفي الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي خرجت  علينا مطابع بيروت بكتيبات صغيرة تعلم الشباب شتى الفنون :كالضرب على آلة الطابعة ، وتناقل الافكار ،وقراءة الكف ...الخ ، وكنت حينها(3) مغرما بقراءة الكتب ، فإبتعت هذه الكتيبات، ولكنني لم اتعلم منها شيئا سوى انها افادتني في معرفة بعض الاسرار .

******

    مرة – كنت وقتها في الصف الثالث متوسط – كنت جالسا على احدى المساطب الخشبيةالتي كانت منتشرة على الرصيف المحاذي لضفاف نهر الفرات في مدينتي الناصرية مساءا ، جلس بالقرب منى شاب عمره في منتصف العشرين ،يحمل في يده حقيبة يدوية جلدية كتب عليها " قارئ كف " ،وبعد ان سلم علي سألني إن كنت اسمح له بقراءة كفي ، فرحت لهذا الطلب وسلمته كف يدي اليسرى كما اراد ، وتحت ضوء مصباح الشارع راح يشرح لي ما تعنيه خطوط الكف ، بعدها راح يقرأ كفي ومما قاله :

    انني ساتزوج باكثر من إمرأة (4)، بعدها عرج الى الخطوط القصيرة في اسفل كفي ، وبتمعن دقيق اخبرني انني سانجب اربعة ابناء ، الا انه لم يحدد جنسهم (5) ، ثم وهو ينظر الى خطوط كفي جميعها اخبرني: ان السفر بالبحر خطر علي ّ، وحذرني منه (6) .

    هذا كل ما قاله لي ، فهل كان صادقا فيما قاله ؟!



---------------

الهوامش:

1- كانت هناك امرأة تقوم بذلك ، اضافة لبيع بعض الحلويات للصغار امام باب دارها بالقرب من بيت الحاج ناصر في الشارع الذي يقع خلف مدرسة الناصرية الابتدائية ، وكانت والدتي يرحمها الله عندما تذهب يوميا للتسوق - كانت بسطة هذه المرأة في طريقها - تكشف طالعي عندها وذلك بسؤالها : هل داود يتزوج الفتاة التي يحبها ام لا ؟ وكانت المرأة بعد ان تنثر الاجسام الصغيرة التي كانت تحتفظ بها في كيس قماشي صغير ابيض اللون تقول : نعم سيتزوجها ، وكانت امي رحمها الله تفرح لهذا الخبر وبعد ان تمنحها درهما واحدا تأتي لتزف  لي الخبر ، وكنت كثيرا ما اغضب لذلك واطلب منها ان تحتفظ بالنقود لان المرأة دجالة ، الاانها لم تقبل بكلامي وترد علي بقولها انها امرأة معروفة بصدق ما تقول .

    - لم اتزوج تلك الفتاة .

2- كانت احدى العجائز من معارفنا – وهي ام محسن وكريم العمال الذين يعملون مع والدي في البناء- تمارس هذه الطريقة وكثيرا ما كانت تبشرنا بالنجاح انا وشقيقاتي عندما كنا طلاب في الدراسة الابتدائية ، الا ان شقيقتي الكبرى المرحومة ام حيدر لم تكمل الدراسة الابتدائية بسبب رسوبها ، واما شقيقتي الصغرى فقد ادامت البقاء في الصف الثالث الابتدائي حتى تركت الدراسة .

3- كنت وقتها في الدراسة المتوسطة في النصف الثاني لستينات القرن الماضي.

4– وانا اكتب هذه السطور ، اصبت بجلطتين ادتا الى شبه شلل نصفي في النصف الايمن من جسدي ، علما انني لم اتزوج سوى مرة واحدة ولم يكن في نيتي الزواج من اخرى .

5- لي من الابناء تسعة ، ابنتان وسبعة اولاد .

6- لم ار البحر طيلة حياتي الا من خلال نافذة الطائرة ، ولم ادعى للسفر بحرا ، وانما كانت جميع سفراتي الى بعض الدول العربية والدول الغربية جوا ، اذ سافرت الى :الاتحاد السوفيتي ، اليونان ، فرنس ، ايطاليا ، المانيا الشرقية ، يوغسلافيا ، جيكوسلفاكيا ،بولونيا ، هنكاريا،الاردن ، اليمن ، سلطنة عمان ، السعودية ، مصر،اما سفرتي للكويت و سوريا فكانت براً .

10 /2007








هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

الله على ذيج الايام الحلوة والجميلة بناسها واهل المدينة الطيبين .. تحياتي الك على نشرك الي ذكرني بايام الناصرية قبل وعلى فكرة الحاج موسى الهايس ايكون جدي والد جدتي ام ابي وانا محمد عبد الكريم لفته حفيدة من بنته تحياتي الك استاذنا العزيز.