الأربعاء، 10 أغسطس 2016

(الاشتغال الفضائي في المجموعة الشعرية " خطأ في راسي " للشاعر زين العزيز) .



نشرت ثقافية جريدة ( الحقيقة) دراستي عن ديوان الشاعر زين العزيز بعنوان (الاشتغال الفضائي في المجموعة الشعرية " خطأ في راسي " للشاعر زين العزيز) ... شكرا للشاعر عدنان الفضلي
الاشتغال الفضائي في المجموعة الشعرية " خطأ في راسي " للشاعر زين العزيز
قراءة : داود سلمان الشويلي
عرفت قصيدة النثر من بين القصائد الشعرية في تميّزها بالشكل واللغة، حيث كان شكلها مفارقا لما كتب من قصائد منذ الشعر الجاهلي ولحد الان ، وفي لغتها التي هي اكثر تطرفا من لغة القاموس ، من حيث انها تكون مادة الصورة الشعرية في القصيدة ، فهي تحاول جادة ان تحطم هذه اللغة التي كتب بها الشعر العربي منذ كتابة اول قصيدة الى الان ، وتكسر الروابط الجامعة لما بينها ، لتؤكد تميزها ، وكذلك فقد جاءت قصيدة النثر بهذه اللغة ، وهذا الشكل ، كرد فعل على خلوها من عنصري الوزن والقافية ، وليس الايقاع الداخلي او الخارجي.
حطمت قصيدة النثر ، كما حطمت قصيدة التفعيلة ، بنية البيت الشعري في القصيدة العمودية ، ويأتي هذا التحطيم في ان قصيدة النثر ترفض اي نظام هندسي ينتظمها ، ودائما هي تهرع نحو الحرية ، وهذا هو عالمها الذي تعيش فيه ، والا فهي تموت كما ماتت العشرات من قصائد النثر، ان كان ذلك اثناء كتابتها ، او كان ذلك اثناء طباعتها في وسائل الاعلام الورقية ، او الافتراضية ، اذ ان نزعتها المتجهة نحو الحرية تتطلب مثل هذا الاشتغال الفضائي الواسع والمنفلت من كل تحديد يحد بحريتها ، على الرغم من محاولات بعض الدارسين ، خاصة عند بحثهم لها لنيل شهادة الماجستير او الدكتوراه ، لتحديدها بإشتراطات ، واليات عديدة .
ان مثل هذه الحرية التي تتبعها قصيدة النثر في بناء شكلها خاصة ، اي في اشتغالها الفضائي المنفلت عن اي تحديد، سيؤثر حتما في توليد الدلالات ، والمعاني ، اي انها توظف جيدا اشتغالها الفضائي واستثماره في توليد ما ينضح منها من دلالات ومعاني ، وهذا ينتج عند القراءة الذكية لها على المنابر ، او عند مطالعتها من قبل قاريء فطن على الورق الحقيقي او الافتراضي ، اذ يعرف الاول محطات قراءة النص ،او التوقف عن القراءة لاسباب لا مجال لذكرها ، من خلال اثراء النص من قاريء متمكن ، ويعرف الثاني قراءة البياض والسواد ، او هندسة الحروف والكلمات والجمل ، او ترقيم المقاطع ، وما شاكل كل هذا ، في النص المكتوب على الورقة .
ان اشكال الكتابة التي تتخذها قصيدة النثر لا تدخل في دائرة الشعر الموزون الخليلية، وهي تتحرر من دائرة الاتباع الحرفي للشعر الحر، فضلا عن ابتعادها كليا عن التفعيلة عروضياً، بل هي تعتمد العلاقات الداخلية ، و حركتها المتموجة بين البياض والسواد ، وتشكيلات اشتغالها الفضائي.
ان هذه الحرية التي يتصف بها النص – مكتوبا او مقروء - يستدعي طاقة تبليغية عالية في لغته ، تتم من خلال استغلال امثل لاشكالها التي تكتب بها ، اي كاشكال بصرية او سماعية .
ان الاشتغال الفضائي لاي نص من نصوص قصيدة النثر يخدم النزعة البصرية عند القاريء ، والقاريء الحاذق والذكي ، التي يريدها النص في التبليغ من جانب مهم من جوانبها وهو اللغة.
عن المجموعة الشعرية التي امامنا " خطأ في راسي " للشاعر زين العزيز في طبعتها الاولى لعام 2016 ، التي تضم (29) قصيدة ، نشر دار الروسم ، سنتحدث عن الاشتغال الفضائي للنصوص فيها ، مرجئين الحديث عن لغتها وما تستثمره من امور ابداعية اخرى الى وقت اخر .
استثمرت قصائد مجموعة " خطأ في راسي " الشكل الكتابي الذي تمرست فيه قصيدة النثر طيلة عمرها الذي ربى على اكثر من ستين عاما في تجاربها الجديدة والناضجة ، لهذا تواجهنا في قصائد هذه المجموعة ثلاثة انماط كتابية للقصيدة في اشتغالات الشاعر لنصوصه في فضاء النص المكتوب ، ونمط واحد داخلي ( داخل القصيدة ) اضافة لما عهدته كتابة النص الشعري في قصيدة التفعيلة ، او القصيدة النثرية ، وهذه الانماط الخارجية للقصيدة ، هي :
- نمط القصيدة الكاملة كوحدة واحدة ، كما في القصائد : (صدفة) ص11 ، (إنّه قلبك) ص35 ، (كرهتُ الشِّعر)ص37 ، (ضحكةٌ في خِزانةٍ مهملة ) ص46، (افترقنا ) ص 61 ، (شجرةُ البيت) ص64 ، (المرآةُ تنظرُ بعينيكَ) ص66 ، (نهايةٌ أخرى)ص72 ، (أنا بانتظاركِ قرب ألف فجيعة) ص80 ، (خذيني)ص82 ، (أيَّتُها البلاد) ص97 ، (أنثى البحر) ص102.
مثال على ذلك قصيدة ( صدفة ) التي بنيت كوحدة واحدة ، اعتمادا على تقديمها موضوعا واحدا ، انه خطاب الشاعر الى الاخر حيث يحب ، تقول القصيدة :
* تيقَّن أَنَّ لوجهِكَ 
أبواباً مغلقةً 
ولكلِّ الأبوابِ مفتاحٌ واحدٌ
خبِّئهُ جيداً . (ص11)
وكذلك قصيدة (انه قلبك) التي يخاطب بها الشاعر نفسه ، او الاخر ، الذي يشبه قلبه بالكنغر القافز ، انها وحدة واحدة تأخذ موضوعا واحدا :
* تأكَّد أنّه قلبك 
الكنغر
الذي يقفِزُ على العُشبِ 
والألغام.
إنّه قلبك . (ص35)
- نمط القصائد التي فيها فراغات ( بياض ) بين مقاطعها ، كما في القصائد : (كانَ.. قلبي) ص13 ، (أنا ابنُ الحربِ الثالثة) ص 21 ، (هو ذنبي) ص25 ، (خطأ في رأسي) ص 39 ، (الشّطرة) ص42 ، (صفعة) ص49 ، (دموعُ الأرضِ مقبرة) ص51 ، (محاولةٌ في تَشَظٍّ ) ص57 ، (هراء) ص69 ، (لي حُفنةُ ضوءٍ في النَّهارِ البعيد) ص76 ، (ما قالته تارا..) ص99.
مثل قصيدة ( كان .. قلبي ) التي تتوزع على خمسة مقاطع شعرية ، ينتهي كل مقطع بلازمة شعرية هي ( كان ... قلبي ) ثم يترك الشاعر فراغ بمسافة سطر واحد ( بياض ) .
ان قيام الشاعر باستخدام هكذا شكل في بناء قصيدته هو كمن يغني اغنية لحبيبته ، حيث ينتهي الكوبليه الغنائي بلازمة كلامية ثم تعقبه لازمة موسيقيه ، وفي القصيدة يكون هذا اللحن هو الفراغ بين المقاطع :
* الطَّلسمُ
الذي تعلقينَهُ في عنقِكِ
سراَ
كانَ .. قلبي
------------------------ ( وضعت هذه النقاط لاشير الى البياض )
المعتوه
الذي يفكِّر دوماً بقصائدَك 
أكس أكس لارج
لا تصلح أنْ تكونَ
ثوباً مناسباً
لجسدِكِ
كانَ .. قلبي . (ص13)
وكذلك في قصيدة (خطأ في رأسي) التي تأتي كبوح ذاتي تقوم به شخصية القصيدة حيث تكلم نفسها .
القصيدة تتكون من خمسة مقاطع شعرية ، يفصل بين مقطع واخر فراغ بمسافة سطر ، وكل مقطع يتحدث عن موضوع معين ، وكل المواضيع تصب في مجرى واحد هو الموضوع الرئيس للقصيدة :
* السؤالُ الذي يخدِ ش رأ سي 
يُؤوّلُ الكون الى أُنثى 
هو خطأ فادحٌ 
متعلِّقٌ بتُفَّاحةٍ أُخرى 
------------------------ ( وضعت هذه النقاط لاشير الى البياض )
وحدي أصرخ 
أيتُّها الأوراقُ الخافِتة 
إملَئِي قلبي باللَّعنَة 
لأخرج كالخطايا التائبة
أيُّها المطرُ النَّازِلُ: 
و أنتَ تطرقُ النوافِذَ 
بكلتا يديك
طهِّرني .. بالجواب
أخبرني 
ربما نحن من سلالةٍ واحدةٍ
و أُمٍّ و أبٍ واحد . (ص39 - 40)
- نمط القصائد التي فيها ترقيم بين المقاطع ، كما في القصائد : (فكرة) ص 16 ، وهي تتكون من مقطعين في داخلهما وجود فراغات كما في المقطع الاول ، وقصيدة من النمط الاول (فكرة) ص19، ( رسائل يرفُضها بريدكِ) ص28 ، (فشلٌ في تدوينِ وجه الغربة) ص78 ، (أضعُ النِقاط فوق القصائد) ص83 ( تتكون من 17 فقرة اغلب الفققرات مهداة الى اصدقاء).
في هذا النمط يتناول الشاعر موضوعا شعريا في كل مقطع مرقم ، الا انه يصب في المعنى العام للقصيدة، في هذه القصيدة (رسائل يرفُضها بريدكِ) التي تمتد على ثمانية مقاطع مرقمة بارقام عربية ( هندية الاصل ) نقرأ المقطعين الاول والثاني التي يقول فيهما:
* 1
اترُكيني
مرةً أُخرى 
أُحِبُّ أن أكتُبَ عن رحيلِكِ 
فهو يشبِهُ 
رحيلَ القتلى
الّذين ذهبوا بلا و صايا .

لأني دائماً
أبحثُ عن ريشٍ 
لهذا الشحرور المُبلّل 
مثلتِ معي
دورَ الصياد . (ص28) 
وكذلك تقع قصيدة (أضعُ النِقاط فوق القصائد) في سبعة عشر مقطعا ، يقول الشاعر في المقطعين الاول والثاني :
* 1
أنا الهَواءُ الدَافئ 
في حَنجَرةِ النَّاي
لا أخرج 
إ لا بنَفخَةِ قلبٍ حزين. 
2
الطّفلُ الذي كانَ سريره
من الجرائد
لقد كَبرَ
و صار خبراً عاجلاً. (ص83)
في هذه القصيدة يهدي الشاعر بعض مقاطعها السبعة عشر الى بعض اصدقائه ، مثل المقطع (3) ، والمقطع (11) والمقطع (14 ) ، والمقطع (17) ، والدراسة ترى ان هذا الشكل حتمه درجة العلاقة بينه وبين اصدقائه ، لان اصدقائه هؤلاء هم بنفس الدرجة عنده ، فهو كمن يقول لصديقه في المقطع (14) القول نفسه لاصدقائه في المقطاع الاخرى ، وهكذا ، ولو اراد لجمعهم كلهم في قصيدة واحدة ، الا ان اهتماماتهم مختلفة بين رسام وشاعر وصديق فلسطيني مقيم في السويد واخر عراقي مقيم في الولايات المتحدة .
اما النمط الداخلي ، فهو النمط الايقوني الذي كتب به الشاعر بعض صور قصائده ، لاستثماره في توليد الدلالات والمعاني التي يزخر بها هذا النمط ، من مثل قصيدة " إنّه قلبك" ، وقصيدة " دموعُ الأرضِ مقبرة " على سبيل المثال :
* وقتها سيتحركُ شيءٌ زجاجيٌ 
في صدرك 
ثم يسقط
كقارورةٍ فارغة. ( ص11 )
وكذلك في قصيدة (إنّه قلبك ) :
* أنّها جُثَثٌ تَتَنَفّس خطايانا 
جنودٌ
أ شجارٌ 
و حيوانات. (ص36 )
* وجوهٌ طالما نسيتُها على مقاعد الدرا سة
في الكازينوهات
والسينما
والحَفَلات
وفي المحطَّات الكئيبة . (ص51 )
وعن استثمار الشكل الايقوني في الكتابة الشعرية في داخل القصائد ، يستخدم الشاعر نمطين احدهما يمثل حادثة السقوط ( كقارورة فارغة ) ، والثاني نمط الايقونة التي يمكن ان نطلق عليها تسمية الايقونة الجغرافية ، لانها توزع مفردات القصيدة بصورة افقية كما توزع مفردات الخارطة الجغرافية .
هناك في المثلين اللذين مثلت لهما من الصفحات ( 36 ، 51 ) توزعت (جنودٌ / اشجارٌ / و حيوانات) و (مقاعد الدرا سة / في الكازينوهات / والسينما / والحَفَلات / وفي المحطَّات الكئيبة) ، كما توزع تضاريس الارض على الخرائط.
وخلاصة القول ، ان اغلب قصائد المجموعة تندرج تحت نمط شكل القصائد ذات المقاطع ( قصائد ذات البياض 11 + 5 من ذوات الارقام ) والمجموع = 16 قصيدة ، حيث هناك نمطين يتبعان هذه الشكل ، ونمط واحد يتبع نمط القصيدة الكاملة (12) قصيدة .
ان اشتغال الشاعر على هذه الانماط حتمته الضرورة الشعرية الابداعية ، انه استخدام واعي ومدرك لهذه الانماط الشكلية التي تأتي بصورة غير ارادية، وقد كان الشاعر في ذلك مبدعا .