السبت، 12 يوليو 2014

القصة الومضة ... التنظير والانجاز


نشرت صحيفة ( العراق اليوم ) على صفحة ( بصمة مثقف ) يوم الاحد 6 / 7 دراستي التي ادرس فيها قصص الومضة عند قصاصين ثلاثة هم : اثير عبد الزهرة الغزي ، وحسين فالح الدبوس ، و حيدر لطيف الوائلي، تحت عنوان (القصة الومضة ... التنظير والانجاز ...نصوص القصاصين الثلاثة انموذجا) شكرا لمحرر الصفحة الشاعر تحسين عباس :




القصة الومضة ... التنظير والانجاز
نصوص القصاصين الثلاثة انموذجا
قراءة : داود سلمان الشويلي
افرزت لنا الذائقة الابداعية في فن السرد في النصف الثاني من القرن الماضي فن سردي  تعددت الاسماء عنه فكانت مثل : القصة الجديدة، القصة الحديثة، القصة اللحظة ، القصة البرقية ، القصة الذرية، القصة الومضة، القصة القصيرة القصيرة، القصة الشعرية، الأقصوصة القصيرة، اللوحة القصصية، مقطوعات قصيرة، بورتريهات، مقاطع قصصية، القصة الكبسولة ,القصة المكثفة ,مشاهد قصصية، فقرات قصصية، ملامح قصصية، خواطر قصصية، إيحاءات، إلى أن استقرت التسمية على القصة القصيرة جدًا. (القصة الومضة: مفهومها, ومقوماتها . القصة العربية ومقوماتها . كتاب القصة . الأدب العرب – منتديات ستوب ) الا ان بعض دارسي ونقاد هذا النوع القصصي يفضل تسمية ( القصة الومضة ) على التسميات السابقة . ( المصدر السابق ) حيث انه ذكر مجموعة من الاسباب المتعلقة بقصر هذا النوع و التي تدعو الى اطلاق هذه التسمية .
فهل طول النص يحدد التسمية بين ان يكون قصة قصيرة جدا ،وبين ان يكون القصة الومضة ؟ وهل هناك اختلاف بين التسميتين؟
 هنا تقف ( الطرفة ) كما يرى البعض في الطريق معترضة ، فهل القصة الومضة طرفة ام لا؟
((ونظرًا إلى اشتراكهما في التكثيف, والمفارقة التي تبث الفكاهة والسخرية, والنهاية الذكية المدهشة رأى بعض الباحثين أن الطرفة هي من قبيل القصة الومضة, وليس الأمر كذلك.)) ( المصدر السابق )
الا انهما يفترقان في :
- سهولة فهما ،ووضوحها المباشر ،على العكس من القصة الومضة التي تتصف بالايحائية ، وبلغتها الشاعرية التي تختلف عن لغة الطرفة السهلة المفهومة ببساطة .
ومن مقومات القصة الومضة :
- التكثيف والتركيز.
- الايحاء
- المفارقة.
- الخاتمة المدهشة.
بعد هذه المقدمة القصيرة والموجزة عن هذا النوع القصصي ، سنقدم في السطور القادمة ثلاثة قصاصيين انتاجوا نصوصا في كتابة هذا النوع القصصي ، وانشأوا مجموعة على الفيس بوك تعني بهذا النوع القصصي اسموها (نادي ذي قار للقصة الومضة) واجروا مسابقات اسبوعية عنه ، هؤلاء الكتاب هم : اثير عبد الزهرة الغزي ، وحسين فالح الدبوس ، و حيدر لطيف الوائلي ،الذين سنفحص بعض نصوصهم القصصية في هذه الدراسة ، لنتعرف على هذا النوع القصصي عن كثب.
امامي نماذج قصصية من نوع القصة الومضة لكل قاص منهم ، سنقدم فحصا عليها ، لنرى مدى تطابق هذه النصوص ومقومات هذا النوع التي ذكرناها في مقدمة الدراسة هذه .
تمتاز النصوص القصصية للقصاصين الثلاثة بقلة عدد كلماتها التي لا تتجاوز اصابع اليدين ، ونحن نعلم ان القصة الومضة تتجاوز هذا العدد من الكلمات في الكثير من الاحيان ، فضلا عن ان تحديدها بعدد كلمات قليلة يميت الابداع عند الكاتب ، ويحيل نصه الى مجالات عديدة مثل: الطرفة ، والمثل ، جملة الشرط وجوابها ... الخ من الفنون الكتابية.
 لو اخذنا مثالا قصصيا من النماذج العربية التي نشرتها الدراسة المعنونة (مقومات قصة الومضة.. وقراءة للنصوص المشاركة ) في موقع ( جسد الثقافة ) لوجدنا عدد كلمات تلك النصوص يتجاوز عدد اصابع اليد .
وكمثال على ذلك هذه القصة الومضة التي عنوانها  ( مصدر رزق) : (( وقف الصياد السابق و الموظف حاليا بشركة التحلية, ينظر لقاربه الذي قام بثقبه متعجبا, فمع انبثاق الماء بقوة منه إلا أن حوافه كانت تبرز أكثر فأكثر حتى وصل لقاع البحر الذي جف تماما.)).
يقول عنها كاتب الدراسة ((هذه قصة ومضة، مكثفة , وموحية, ومبنية على المفارقة, ونهايتها مدهشة . فشخصية القصة كان صيادًا ثم أصبح موظفا في شركة التحلية . والصياد يعيش على ما يجود به البحر فهو مصدر رزق له , والموظف في شركة التحلية يربح من تحلية مياه البحر فهو مصدر رزق لها . وخرق القارب يشير إلى سلوك سيء في التعامل مع البحر .المفارقة تحدث حين ينبثق الماء من القارب ولكنه لا يغرق بل تبرز حوافه أكثر فأكثر حتى ينكشف تماما لأن البحر جف. وهذا يشير إلى أن الصياد الذي حولته المدنية إلى موظف في شركة التحلية ينظر إلى البحر بصفته مصدر رزق, ولكن يتعامل مع البحر بأسلوب مضر يؤدي إلى نفوقه وفساد الطبيعة . وهذه القصة رمزية تبين أن عناصر الطبيعة هي هي , ولكن الإنسان القديم أفاد منها دون تدميرها فظلت مصدر رزق له, في حين أن الإنسان المعاصر استهلكها ودمرها. وقصة الومضة تفيد من تفاصيل الصورة في بعد رمزي جميل . والعنوان يحيل إلى الفكرة الجوهرية , وهي أن كل الأشياء النافعة تكون مصدر رزق إن أحسن الإنسان التعامل معها.)).
وكذلك نص ( المؤامرة ) الذي يتكون من اربعة عشرة كلمة ، وقصة ( انحسار ) التي يتجاوز عدد كلماتها العشرين كلمة ، وغير ذلك من نصوص .
ان القصاصين الثلاثة قدموا نصوصهم بعدد قليل من الكلمات لا يعدو العشر كلمات، ولا يقل عن الاربع ، وهذا متأت من المقومات والشروط التي وضعوها للنصوص المشاركة في المسابقة الاسبوعية التي اقاموها، حيث يذكر الشرط الاول ان لا يتجاوز طول القصة الومضة عن ثماني كلمات  ، وهو شرط لم يحافظوا عليه في نصوصهم ، لانه خارج اطار الذائقة الابداعية لاي مبدع كان .
ولو عدنا الى نماذج نصوص دراستنا، وبدأنا بفحص نص (غريب) للقاص اثير الغزي ، الذي يقول فيه (اِشتُهِرَ بالخيال، نعتوه بالجنون) لوجدناه يتكون من اربع  كلمات ،و نص (كرهٌ) يتكون من تسع كلمات ، اما بقية النصوص فتقع بين هذين العددين من الكلمات .
اما القاص حيدر الوائلي فنصوصه القصصية تقع بين عشر كلمات مثل نص (لحظة) الذي يقول فيه ( ذابَ في مُقلَتيها،عَشَقَ ثَغرها الساِحر،مَدّ يَدهُ أطفَأ التَلفاز) وهو خارج عن الشرط الاول ، وبين اربع كلمات في نص (نزق) ، اما باقي النصوص فتقع بين هذين العددين.
اما القاص حسين فالح فنصوص قصصه تقع بين عشر كلمات مثل نص (أرضٌ) الذي يقول فيه ( اغتسلَتْ بالدماءِ، تعطرَتْ برائحةِ الفناءِ، باتتْ تنتظرُ أن يُزَفُ عريسُها) وهو خارج عن الشرط الاول ، وبين نصوص تتكون من اربع كلمات مثل نص (مرابحة)، والنصوص الاخرى التي تقع بين هذين العددين من الكلمات .
ان قسر الذائقة الابداعية على صب الفكرة ، والاتيان بالمفارقة والدهشة هو ضرب من الخيال ، وموت للابداع المنتج نصا ابداعيا كاملا .
***
والتكثيف الذي هو مقوم اساسي للقصة الومضة ، كما في الشعر ، متأت من علاقة اللغة بالفكرة التي تقدمها القصة الومضة ، ويعرف التكثيف في الدراسة المنشورة على موقع "جسد الثقافة "بأنه : (( الاقتصاد في الكلمات والاكتفاء بالقليل منها مما يفي بالغرض. فقصة الومضة مكثفة جدًا , وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والانثيالات الواعية وغير الواعية ، إضافةً إلى تركيزها على خط قصصي هام يتمثل في النقاط والكلمات التي توصل إلى الموقف. ورصدها بمهارة شديدة حالات إنسانية شديدة الصدق.)).
هذا التعريف يعيدنا الى قضية عدد الكلمات في القصة الومضة ، وفي الوقت نفسه يربط الفكرة التي تطرحها القصة الومضة بهذا العدد من الكلمات او ذاك ، اي، بتضافر الاثنين ليقدما قصة محافظة على مقومات القصة الومضة دون الاخلال في سرديتها ، ويكون ذلك من اختيار الكلمات الموحية ، والممتلئة بالمعاني الحافة للمعنى الاصلي.
ففي نص اثير الغزي (مكيدة) الذي يقول فيه ( نصَبَ الشيطانُ فخّاً، حاكَ المتأسلمون خيوطه).تطرح فكرة العلاقة بين الشيطان و ( المتأسلمون ) وكيف ان الشيطان  ينصب الفخاخ ،فيما ( المتأسلمون ) يحيكون خيوط تلك الفخاخ ، اي يحيكون مؤامرات الشيطان للانسان.
الفكرة عظيمة وكبيرة الا ان القاص كثفها من خلال اللغة باستعمال الفاظ موحية ( نصب ) و ( حاك ) .
هذان اللفظان يدفعان بالذاكرة الى ان تنثال فيها الصور والمعاني عن كيفية النصب ، وكيفية الحياكة .
بعدها يستخدم القاص الفاظ اخرى مثل ( فخ ) و ( خيوط ) ، حيث تنثال صور الذاكرة عن هذين اللفظين الموحيين ، وعن نوعية الفخ وماهية خيوطة.
وفي نص لحسين فالح بعنوان (مسير) الذي يقول فيه ( أبحر في ذاكرته؛ غرق بوحلها)، يطرح فكرة ان يراجع الانسان ذاكرته لكي يقومها ويقيمها ،الا انه يضيع في متاهاتها ودروبها لتشابك ما تحتفظ به هذه الذاكرة من اشياء وامور.
استخدم القاص الفاظ موحية مثل ( ابحر ) و ( غرق ) ، اذ ان ( ابحر ) توحي لنا بالدخول في عالم مجهول ، كما يدخل بطل القصص الشعبي في عالم لا يعرف عنه شيئا ، كالعالم الاخر مثلا ، فيتيه فيه ، الا ان القاص يتداركه ،فيغرقة بوحل ذلك البحر ( الذاكرة ) وكأنه يوقف جريان هذا الابحار ( اي الانثيالات ) لامر ما .
الفكرة عظيمة وكبيرة الا ان النص صاغها بكلمات قليلة.
وفي نص لحيدر الوائلي بعنوان (سراب) الذي يقول فيه ( أدخلته غرفتها خلعت جبته ،عمامته ،لحيته فتلاشى) ، لم يبن القاص قصته بوساطة كلمات موحية ، وانما بترابط هذه الكلمات فيما بينها ،وبانشاء علائق  رابطة بينها ،يولد الايحاء ، فدخول رجل الدين بكامل لباسه وتلاشيه، تنثال الذاكرة لترسم حالات وصور عديدة ومتنوعة لحالة التلاشي ، واين كانت هذه الاكسسوارات ( الجبة والعمامة واللحية ) منتصبة ، ثم تلاشت ،حيث ترمز القصة الى فراغ رجل الدين هذا .
الفكرة عظيمة وكبيرة ،الا ان النص صاغها بكلمات قليلة ، وبترابط هذه الكلمات اوحى النص باشياء وامور عديدة ، ربما تختلف من متلقي الى اخر.
والتكثيف – اذن - هو اقتصاد في اللغة بشرط ايحائية الكلمات المختارة .
***
و" المفارقة " وهي من النوع  التصويري،و التي هي واحدة من مقومات القصة الومضة، وكذلك في الشعر ،هي موازنة ومقارنة بين حالتين يقدّمهما الكاتب في صورة تضاد واختلاف يُلفتان النظراليهما بحدة، مما تزيد إحساسنا بما نقرأ، و تشارك في تعميق الفهم ، لإيصال حالة ما نقرأ بطريقة إيحائية.
و نصوص هذا النوع عند قصاصينا الثلاثة ، حملت راية المفارقة ،وقد أحسنوا توظيف ذلك ،و من ثم تقديمها باسلوب يفضي حتما الى  خاتمة مدهشة .
ففي نص الغزي (أمل) تكون المفارقة موظفة في خدمة حالة الادهاش التي تتلبس المتلقي عند قراءته للنص الذي يقول : ( تصاعدت نار الفتنة ،رسم الدخان حمامة السلام ).
ونص الدبوس (حقد) ( أنار له الدرب, عصب عينيه) وغيره من نصوص القاص ، وكذلك نصوص الوائلي مثل هذا النص (غربة) ( وجد من يتمناه؛ فقرر الضياع فيه) وغيره من نصوصه المختارة، تأتي المفارقة عند القصاصين الثلاثة من خلال التضاد بين الجملتين في القصة ، اذ الجملة الاولى تقدم فكرة تتضاد مع الجملة الثانية ، فتحدث المفارقة التي تفضي الى الادهاش .
وتاتي حالة الادهاش هذه فتترك القاريء يعيشها عند الانتهاء من قراءة النص .
والادهاش ، في قصة الومضة هو غايتها ، وهدفها الذي تريد، حيث انه يربط داله بمدلوله ،مما يعطي المتلقي راحة نفسية بعد وصوله الى حالة الادهاش تلك ، فيحس بالرضا دون ان ينتظر المزيد .
سناخذ من كل قاص قصة ومضة يرد فيها لفظ ( الشيطان ) او فعله ، لنفحصه فحصا اجرائيا ، لنتبين وقوع حالة الادهاش من عدمها.
نص اثير الغزي :(كرهٌ) : ( أركعها على ركبتيها على حافة السرير، تعوذ الشيطان منه.).
نص حيدر الوائلي :( قيود) : ( رفع الحضر عن الأدمغة ؛فعُبد الشيطان جهراً.).
نص حسين الدبوس: ( عاهرة محتشمة ) : ( غاب نهارها الفاضح؛ تراقصت شياطينها.).
في نص الغزي الذي تفوح منه رائحة الجنس ، من قصص التمفصلات الثنائية بين فعلين ( ركوع ) و ( تعوذ )، نجد ان ركوع المرأة على حافة  السرير ياخذ مناحي عدة ، اما للفحص الطبي ، او للعقوبة ،الا ان الشطر الثاني من القصة تصفعنا بتعوذ الشيطان ، فهل تعوذ الشيطان لما راى المراة تركع للفحص الطبي ؟ ام انه تعود لانها  ستعاقب؟ بالتأكيد ليس هذا ولا ذاك ، وانما لامر هام ، على المتلقي ان يهتدي اليه.
اما نص الوائلي فهو ايضا من قصص التمفصلات الثنائية بين فعلين ايضا ( رفع ) و ( عبد ) ، وهو عن الحرية ،وكيف ان رفع القيود عن الادمغة يفضي الى التعبير بحرية في كل شيء،فالى اي شيء يفضي هذا الرفع في هذا النص ، هنا تأتي الدهشة عندما نعرف بعبادة الشيطان جهرا.
وعبادة الشيطان جهرا اما ان تكون بترك الدين ، وهذا امر نسبي حسب مفهوم القاريء للنص ، او ترك الاخلاق السوية ،  وعلى المتلقي ان يختار  بين الاثنين.
ونص حسين الدبوس الذي هو ايضا من قصص التمفصلات الثنائية بين فعلين ، ( الغياب ) و ( التراقص ) يطرح مسألة عامة ،ليست العاهرة المحتشمة الا واحدة منها ، وهي مسألة عندما تفضح نهارا ماذا تفعل في الليل ؟ حتما ستكيد كيدك ، وتحوك المؤمرات ، وهي من  افعال الشياطين .
  ***
إن قصة الومضة التي قدمنا نصوص لقصاصين ثلاثة ، تؤكد على ان الحدث غير معني بالاشتغال والانشغال من قبل القاص ، وانما المهم ان يكون النص قد ادى غرضه الفني في ان يكون بارقا – من البرق - في ذهن ووجدان المتلقي ، وهذا لا يتم ما لم تتضافر مقومات القصة الومضة من التركيز والتكثيف ، والكلمات القليلة الموحية ،والمفارقة ، المؤدية الى حالة الادهاش التي هي كالصدمة لذهن ووجدان المتلقي .



ليست هناك تعليقات: