الأحد، 6 يوليو 2014

رمزية الحيوانات والطيور في الخطاب التشكيلي العراقي - المنجز التشكيلي للفنان " كريم داود " انموذجا




رمزية الحيوانات والطيور في الخطاب التشكيلي العراقي
المنجز التشكيلي للفنان " كريم داود " انموذجا
قراءة : داود سلمان الشويلي
من ابسط تعاريف الرمز هو ان له علاقة (( بالفكرة التي يعبر عنها و هي علاقة سببية حيث أن الفكرة هي السبب في وجود الرمز، و هي ما يثيره الرمز في الأذهان، فالرمز في حد ذاته ليس له مدلول إن لم يكن هناك خلفية شائعة لمفهوم هذا الرمز)) . (بحث :الرمز في الفن الشعبي التشكيلي بمصر و استخدام رموز الحب و الكراهية في تصميم المنسوجات- الأستاذ الدكتور: منى محمد أنور عبد الله).
ان للفن امكانية تأويلية تعطيه طاقة مضافة في اغناء نفسه جماليا ، وكذلك انعكاس رؤية الفنان في منجزه التشكيلي من خلال طبيعة الرمز الذي استلهمه ومدى تطابقه مع افكاره التي صاغ منجزه التشكيلي على هديها .
الفنان كريم داود يقدم عبر اكثر من خمسين لوحة نشرها على جدار صفحته في الفيس بوك وقد ضمتها سابقا عدة معارض له، عالماً جديداً من إبداعه التشكيلي ، ليشكل من خلال ذلك المنجز خطابه الفني التشكيلي ، مخاطبا المتلقي بما احتواه منجزه  من حوارات قائمة بين ما فيها من عناصر قديمة ، اوجديدة، فلسفياً وفنياً ،اذ احتوت لوحاته على الأساطير والموروثات الشعبية، والرموز الحيوانية التي ترتبط عبر علاقات تشكيلية لا تخلو من النزعة الدرامية، وهذه العناصر التي حددها الفنان في رسوم وأشكال تضم فيما تضمه " الغراب ،الديك، الحمامة ، القط "، تعبر عن مشاعر واحاسيس متنوعة و كثيرة ، وقد تعامل معها بروح شاعرية .
ومن خلال هذا الخطاب ، تمكن الفنان التشكيلي كريم داود ان يبقى متصلا بابداعه  في الفن التجديدي ، وببيئته الجنوبية ، ليتناما  لديه الحس والخيال ، مكوناً عنده القدرة العالية على تحريك وجذب الرؤية البصرية الأبداعية للمتلقي.
 لقد منح الفنان كريم أعماله التي ضمها خطابه التشكيلي قيما فنية متعددة  خاصة القيمة البصرية التي يتحاور من خلالها دائما مع المتلقي بطريقة ذكية، مستندا على مخيال جامح ،وفكرة رصينة ، ومستعينا باللامرئي الذي يمنح المتلقي رياضة فكرية في قراءة خطاب الفنان التشكيلي ، ومن ثم دفعه لمحاولة فك رموز اللوحة التشكيلية، التي توحي للمشاهد بأنها منجز سريالي ، لأنه يبقى بحاجة إلى الكثير من التأمل والقراءة والتفسير، الا انه منجز يمزج ما بين السريالية والتعبيرية والرمزية.
ومن الطيور التي استلهما كرمز دال على افكاره عندما تتجسد في اللوحة ، هو رمز الغراب .
الغراب له رمزيته الوثنية في ثقافات الشعوب والامم ، فعلاقته بالسحر والشعوذة معروفة ، وكذلك علاقته المباشرة بالموت ايضا.
فالغراب الاسود اللون في خطاب الفنان التشكيلي ، وكذلك صوته الذي يحمل معاني التشاؤم ، وايضا غراب البين الذي سماه ابن قدامة بهذا الاسم، لأنه لم يعد الى نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، يعكس تصور سلبي قد صاحبه منذ الاف السنين ، حيث يربط بلا عقلانية بين لونه الاسود والتصورات التشاؤمية له ، فقد ورد  في الامثال العربية ( اشأم من غراب ).
هذا الغراب يعطي درسا بليغا للبشر، اذ يعتبر الشاهد الوحيد على اول جريمة للانسان ، وكذلك ذكيا ايضا، ويعتبر المعلم الاول للانسان ، فقد ورد الغراب في القران (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) ( المائدة /31 ).
وقد استعان الفنان علاء بشير بالغراب في منجزه التشكيلي واثمر كثيرا في منح   لوحاته طاقة رمزية كبيرة .
الفنان كريم استلهم رمزية الغراب في اكثر من لوحة ، مما منحها بعدا مضافا ، يضاف لما ضمت من الموروث الشعبي العراقي ، فكانت لوحات تشكيلية زاخرة بما تبوح به من  قيم انسانية.
في لوحة وضع الفنان راس صبي على صليب مكسور، وقد وقف في خلفية اللوحة غراب اسود ، رامزا الى المأساة العراقية في الموت المجاني الذي يصيب كل شيء ، وقد اثث الفنان خلفية اللوحة من الاعلى بكل ما يشير الى العراق من عمارة القباب الخضر ، والنخلة ، والبساط الملون المزخرف ، واشكال زخرفية ، ليشير الى ان الحياة سائرة رغم هذا الموت المجاني الذي يرمز له الغراب.
وفي لوحة ثانية، يقف هذا الغراب على جذع شجرة مكسور ، وهناك في ارضية اللوحة راسين مقطوعين لرجل وامرأة ، فيما السماء ملبدة بالغيوم، وهناك على جهة يمين اللوحة اشعاعات تنبعث باستحياء من الغيوم رامزة الى ان هناك امل في الافق ، بصيص نور في نهاية النفق بالتعبير السياسي ، على الرغم من وجود الرأسين المفصولين.
فعلى الرغم من الموت المجاني ، يبقى الامل قائما في الحياة ،لانها حياة مليئة بالاماني والاحلام .
وفي لوحة ثالثة يقف الغراب على صليب مكسور، دالا ورامزا  للموت الذي احاط بالدنيا فجعلها حطاما،انه يقف ليرى ما فعله الموت ، والانسام الميت في اسفل اللوحة لم يتوضح منه سوى راسه وبعض جسده ، اللوحة كيوم القيامة تزخر بالظلام ، والكدر ، حيث يحيط اللوحة من اركانها الثلاثة اللون الاسود ، اما الركن العلوي فقد امتلأ بالالوان الفاتحة ، خاصة اللون الابيض، الا ان الغراب يقف في المنتصف، رامزا الى سلطة الموت.
وتتكر صورة الغراب في منجز الفنان التشكيلي رامزة الى سلطة الموت .
***
استلهم الفنان كريم الحمامة ليرمز بها الى الحب والسلام والاستقرار في خطابه التشكيلي التي جسدته اكثر من لوحة تظهر فيها الحمامة .
ولو اخذنا الحمامة  واستلهامها في الفن التشكيلي نجد بيكاسو مثلا قد استلهما رمزا للسلام ، وكذلك فائق حسن في جداريته في ساحة الطيران ، ويعود هذا الرمز الى اسطورة الطوفان السومرية ، وكيف ان نوح قد اطلقها فعادت بخبر الارض اليابسة ، على العكس من الغراب الذي تحدثنا عنه في السطور السابقة .
والحمامة هنا تمثل كل ما من شانه ان ينتج سلاما وامنا واستقرارا ان كان ذلك على صعيد الشخص داخل العائلة مثلا ،او على صعيد المجتمع.
ففي لوحة تمثل النذر ، حيث تقف فتاة بضفيرتها الشقراء وملابسها الجميلة وهي تحمل صينية فيها شموع ، فيما اثث الفنان خلفية اللوحة ( الباك راوند ) بكل ما يمثل التراث والفلكلور العراقي بالوانه الفاتحة المفرحة ، ووضع في الجهة العليا من يسار اللوحة حمامة جميلة وكأنها شاهدة على فرح الصبية وسلامها وحبها للحياة حيث نذرت هذه الشموع لما تحقق من احلامها وامانيها.
وفي لوحة ثانية ، جسد فيها الفنان صورة الام وهي فرحة مسرورة بطفلها الجالس في حضنها ،وطفلها الاخر الواقف بالقرب منها وهو يحمل لعبته المصنوعة بيديه ذات الشعر الاشقر ،وهم ينعمون بالحب العائلي وبالامان والسلام التي تفضحه تواجدهم الثلاثة في مكان واحد .
في خلفية اللوحة كل ما من شانه ان يرمز للعراق من خلال قبابه ،وبيوته ذات الشبابيك القديمه الجميلة ،والاثاث الفلكلوري الشعبي ، وهناك حمامة بيضاء تنتصب واقفة في منتصف جهة اليمين لتبين للمتلقي مدى الحب الذي تكنه الام لاولادها ، ومدى سلامهم وامنهم الذي يعيشونه.
الا اننا في لوحة ثالثة نجد الفنان قد رسم صبية جميلة تحمل حمامة بيضاء في ذيلها ريش متعدد الالوان ،وهناك من جهة اليمين يمتد صليب من الاعلى الى الاسفل رامزا الى الموت الذي يطال هذه الفتاة السعيدة الامنه المسالمة ، انه الموت المجاني الذي يتربص العراقيين يوميا.
وتتكر صورة الحمامة في منجز الفنان التشكيلي رامزة الى سلطة الحب والسلام والامان والاستقرار .
***
و يأتي صوت الديك كل صباح معلناً بدء يوم جديد ،ونهار جديد،  حيث يبدأ زحام الحياة ،مواقف عديدة ومتنوعة ، لحظات مليئة ، طموحات ، كل ذلك يحمله صوت الديك الصباحي.
وصياح الديك، ليس ظاهرة صوتية فقط، بل انه صيحة لونية كذلك، وإذا كان الديك يرمز للزمان، إلا أن صياحه يأتي من خلال اللوحات ليرمز لكل الأزمان ، الشروق، الظهيرة، والمساء ، وانه بهذا الرمز الزماني ،يتمتع بالسيطرة والغيرة.
وفي الموروث الشعبي ، ان صياح الديك بعد منتف الليل هو تنبيه للمرأة الزعلانة ان اليوم قد انقضى ، ولا احد ياتي لردها الى بيت الزوجية ، اي انه اليأس القاتل.
يركز الفنان كريم في لوحاته على رسم حالات إنسانية عديدة ومتنوعة ، بالإضافة إلى استخدامه لمفردة "الديك" مع تناغمات قدرته الإبداعية في ابداع لوحاته .
في لوحة تضم صبي وصبية يبدأ فيها اشراق نهار جديد ، فيما الديك في اعلى اللوحة يصيح بصوته المعهود ، ليؤشر الى نهار سعيد لهذين الصبين.
اثث الفنان خلفية اللوحة ( الباك راوند ) بكل ما من شأنه ان برمز الى الحياة الشعبية ليؤكد ارتباط الصبين ببيأتهم ، من نخلة ،وابواب مقوسة من الاعلى، وزخارف شعبية ،كما في البسط والمفروشات الشعبية .
وفي لوحة ثانية ، وبوجود الصبيين والخلفية الشعبية ، نرى  ان الصبي يحمل ديكا بين يديه مؤكدا على ان كل الاوقات بين يدي الصبي هذا ، والصبية ايضا بشعرها الاشقر  الطفولي المظفور هي الاخرى سجينة الازمان الخاصة بالصبي.
في لوحة ثالثة نجد ان الفنان قد رسم فتاة نائمة ، وقد اغمضت عينيها ،والديك بالقرب من راسها يعلو صوته ، وهذه اللوحة صدى لتلك الخرافة الشعبية عن يأس المرأة الزعلانة بعد صياح الديك بعد منتصف الليل، حيث يصيبها اليأس من مجيء من يردها الى بيت زوها ، فتهرع الى الفراش لتستكين فيه حتى يغلبها النوم .
تعدد وتنوع المنجز التشكيلي للفنان الذي يضم رمز الديك ، فاغلب لوحاته قد ضمت هذا الطائر ، ليمنح اللوحة بعدا اسطوريا شعبيا يحاور من خلاله الذائقة التشكيلية للمتلقي.
***
وللقط مكان في لوحات الفنان التشكيلي كريم داود ، حيث انجز اكثر من لوحة ينتصب القط فيها .
والقط ارتبط فى ذاكرتنا الوجدانية بالخوف ،والخطر ،والشر ،والظلم ،وكذلك الخرافة، حيث يشكل القط الاسود في لوحتين تبدو فيهما المرأة المشعوذة ( الطاشوشة ) تتوسط صبي وامرأة وهي ترمي الحصى واشياء اخرى في اناء ( طبق  خوص ) امامها ،فيما انتصب القط مرة في امام اللوحة ،ومرة في الجانب ،قابعا على الارض رافعا ذيله الطوبل ، حيث تقدم هاتين اللوحتين خطابهما الرامز الى حالة الظلم التي تعيشه المرأة وصبيها ،فتلجأ الى الخرافة ،باحثة عن مخرج للحالة التي تعيش فيها .
ان تأثيث (باك راوند ) اللوحة بالاعمال والزخارف الشعبية ، والرسومات الدالة على السحر ، ووجود كلمة الله في الاعلى، كل هذا يمنح اللوحة بعدا روحيا مشبعا بالخرافة التي تفضي الى الخوف ،والشر ،والخطر المحدق بالمرأة وصبيها ، وهذا يؤكده وجود القط الاسود .
واللوحة التي تنذر بالشر بوجود القط الاسود ،هي لوحة يظهر فيها طفل في مهده ( الكاروك  الشعبي )، فيما يقف في خلفيتها شبحين اسودين كأنهما يقتتلان ، وقد برقت السماء ، فيما الهلال في اعلى الصورة وقد لفته الالوان والزخارف ، كل ذلك للدلالة على الشر المحدق بالطفل ، وهناك قطعة قماش خضراء ( علك ) شدت على المهد ، وهي لا تنفع طالما القط والاشباح والبرق محيطين بمهد الطفل.

ان الفنان التشكيلي كريم داود يقدم في خطابه هذا الذي مادته اللوحة وما فيها من خطوط والوان وافكار، يقدم نقدا للفكر الشعبي المليء بالخرافات ، وما تطرحه الاساطير من دروس يراد منها ابقاء هذا التفكير يعيش في زمن ليس زمانه ،انها  مشدودة الى ماضي خرافي لا معقول ، وفي الوقت نفسه يقدم بعض الامل في عالم اصبح فيه الموت بالمجان.

ليست هناك تعليقات: