الأحد، 15 يونيو 2014

ذائقة المتلقي وقصيدة النثر عباس ريسان في " صاعدا يتبعني البحر " انموذجا


ذائقة المتلقي وقصيدة النثر
عباس ريسان في " صاعدا يتبعني البحر " انموذجا
داود سلمان الشويلي
للشعر قوانينه ،ومقوماته، واسسه، وبنائه ، وللنثر كذلك ... وفرق كبير بين الاثنين، لانه لكل واحد عوالمه ، وفضاءاته التي يتحرك فيها ،ولكل واحد قرائه ومريديه ، ووعيهم الذي يستقبلون به هذا الشعر، وصوره وافكاره ورؤاه.
 اذن ما الذي يجعلنا نسمي هذا الذي يكتب شعرا وهو خال من الموسيقى والايقاع والقافية ،وخارج عمود الشعر، او بنائية قصيدة التفعيلة ؟
هذا السؤال طرحته على ذائقتي النقدية ؟ وعلى ذائقتي التقبلية – اذا صحت التسمية - ؟ فلم اجد اجابة الا بقراءة هذا الشعر / النثر واستخراج ما يمكن استخراجه منه من صفات والتي يمكن ان تحوله من نثر حاف ،الى شعر تطرب له النفس لتستجيب لما فيه من افكار ، وصور ، ورؤى ،وخيالات.
امامي ديوان الشاعر " عباس ريسان "  و عنوانه " صاعدا يتبعني البحر " الصادر من مؤسسة البابطين للابداع الشعري ، والذي يضم قصائد  كتبت بلا وزن ولاقافية ، ولا نضمت على بحور ، او بنيت على هيكلية قصيدة التفعيلة حتى، أي تنتمي لما يسمى الشعر النثري ، الذي له الكثير من الاتباع والمريدين ، هذا الشعر الذي اصبح في زماننا هذا هو المتصدر في وسائل الاعلام – خاصة الانترنيت – للسهولة التي يجدها البعض في كتابته ،وهذه هي الجريمة الكبرى التي لا يضاهيها الا جريمة تقعيده في اوزان محددة والتي قام بها الفراهيدي (*)، ومن هنا تاتي صعوبة الفرز في ان نقبل ان نسمي هذا شاعر ،وذاك ليس بشاعر.
ان البعض يرى فيه السهولة في الكتابة ، مما يجعل ما ينتج من اقلام هؤلاء نثرا ، ونثرا سمجا، باردا ، تقريريا ، وغير اهل لان نطلق عليه مصطلح النثر ايضا.
ان جمالية القصيدة في هذه المجموعة ، قد صاغها الشاعر في الصفات التي يمكن استخلاصها من شعره ، الصفات التي يمكن ان تجعل النثر شعرا ، هذه الجماليات الجديدة ،هي:
- الدلالات اللغوية الجديدة التي يؤسسها هذا الشعر ،والتي تمنحه قوة دافعة في ان تكون قصائده  شعرا، فشعره مثلا يحول المحسوس الى لا محسوس ، ويصوغ استعارات جديدة  :
* ارمم جسد الظل
ابعثر وصايا خريف
باغتني بسماء ثامنة
وسراب
* وجهك
كمدائن السراب ، يكتظ بالضباب
اعلم ان بريق الاواني ، يجذب العيون
وان النحلة تصرعلى الرحيق
اخاف ان المس  المطر يندلق الجمال
فالشاعر عندما يجعل الاحاسيس متبادلة الوظيفة فانه يدفع بالنثر الى ان يكون شعرا، ويجعل من وعي القاريء حقلا لان تتصارع فيه الرؤى والصور والافكار.
- ومن تلك الصقات التي يمتاز بها شعر عباس النثري هوالتبادل الوظيفي للاحاسيس ، فمثلا تاخذ حاسة السمع دور حاسة الشم :
* هكذا اشعربنشوة 
كلما سمعت عطر  امرأة
يمر من  امامي .
وهذه الفاعلية جديرة بان تمنح المتلقي ووعيه الفعال ،طاقة في تقبل هذا الشعر بفعالية عالية ، حيث تتفاعل في وعيه الحاستان معا ، لتنتج الصورة الشعرية المعنية.
- ومن ضمن الصفات تلك ، الاستعارات الجديدة في قصيدة النثر التي يكتبها عباس والتي تحيلها الى شعر ، تلك الاستعارات التي اشرنا اليها قبل قليل لتنكسر جدة النثر وتقريريته الباردة:
* لا شيء يدغدغ السما
لا مطر من شفة الغيوم
لا رحيق من نحلة اللقاء
من يغسل الهدوء
عن وجه من التف بالذهول
* الكأس ملاى
فهاتي من ملامح صمتك
نحو اصابع لهفتي لخمرة اللقاء شفتين
- وكذلك غرائبية الصورة الشعرية عند الشاعر ، هذه الغرائبية التي تجعل المحسوس يتحول في الشعر الى لا محسوس ، والمرئي الى لا مرئي :
* كلما نظرت الى المرآة
اشاحت
بوجهها،
كأنها تقول :
تبا ، السفن قررت الرحيل
وانا في جزيرة نائية
* ليس ذنب المرايا
ان ارى ظلي يتراقص
فوق راسي،
كسقوف تتداعى
انها الوطن
كيف تركت العراق وحيدا،
يتلظى والوقت رمال؟
ان وجود هذه المرتكزات / الصفات وغيرها في القصيدة النثرية جاءت لتكسر رتابة النثر الباردة ، وتقريريته، وتؤججها في تصاعد مستمر، انها بديلا عن افراغ الشعر من وزنه وايقاعه وموسيقاه ومن القافية اللعينة التي كانت له كالمرساة للسفينة في البحر ، تترك وعي المتلقي حقلا للتفاعل ،والوصول الى الصورة التي يرسمها الشعر ، والرؤى التي يخلقها ، والتخيلات والانثيالات الشعرية  التي يتحسسها المتلقي.
ان صياغات عباس ريسان لقصائدة النثرية هي صياغات همها ان تجعل النثر شعرا ، وتمنحه تدفقا وانسيابية  ضمن سياقات جديدة لفن الشعر ، انها تمنح اللغة بعدا جديدا ، شعري ، وتجددها، لتبعدها عن نثرية باردة ،و تقريرية شمجة،وتمنح القصيدة موسيقى جديدة غير موسيقى الوزن والبحور الشعرية ، وايقاعا جديدا ..
***
- صدر للشاعر ثلاث مجاميع شعرية ( سومازينا السماء )، و( ضفاف هاربة ) من دار الينابيع في سوريا، ومجموعة ( عصافير الجوع ) عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.

* راجع مقالنا ( تقعيد الشعر – جريمة في الشعر ) في مجلة سطور بتاريخ 18 /6 /2013 

ليست هناك تعليقات: