الثلاثاء، 17 يونيو 2014

التناص الاسلوبي مع القرآن قصيدة الشاعرعدنان الفضلي ( اذا ... العراق ) انموذجا





التناص الاسلوبي مع القرآن

قصيدة الشاعرعدنان الفضلي ( اذا ... العراق ) انموذجا

داود سلمان الشويلي

صدر للشاعر عدنان الفضلي مجموعة شعرية بعنوان ( غواية الساعات ) عن دار ميزوبوتاميا عام 2011.
تضم المجموعة ثمانية عشر قصيدة طويلة ، كانت تفوح منها رائحة الهموم والهواجس اليومية  التي تصل حد ان يكون فيها الانسان : (مسطولاً ..وكل شوارعه مكبلة باسماء مستعارة).
في قصائد المجموعة خاطب الفضلي جل اصدقائه ، من محمد درويش علي الذي اسماه بشهيد الفقر ،الى الشاعر ريسان الخزعلي ، الشاعر العامي وشاعر الفصيح والباحث في رؤى الشعراء ، مرورا بالفنان التشكيلي محمد سوادي ، شاعر الومضات القصيرة الفيسبوكية ، وكاظم غيلان الشاعر العامي الذي لم يغادر قاعة النادي الاجتماعي لاتحاد الادباء ، وياسر البراك المتيم بطرح اسئلة المسرح ، وغيرهم من الاسماء الشعرية والقصصية والثقافية المعروفة على الساحة العراقية.
***
في كتابي ( الذئب والخراف المهضومة ) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العام عام 2001 ، ذكرت فيه ان هناك قضية اثيرت عن التناص هي انه قريب من بعض المصطلحات النقدية العربية القديمة كالتضمين ، والاقتباس ،والسرقة ،مؤكداً على أن التناص في وقتنا الحاضر أكثر تطوراً ، وتعقيداً من تلك المصطلحات النقدية العربية القديمة، فهو يحمل بين طياته طبيعة هذا العصر، ويدل على معان أكثر تنوعاً، وقد استخدم شعراؤنا كثيراً من أشكال ذلك التناص قبل أن يصل المصطلح إلى النقد الادبي العربي المعاصر، فقد لجأ الكثير من شعرائنا إلى نسج بعض قصائدهم على مصادر ثقافية وادبية ودينية متنوعة، كالسياب والبياتي ونازك وبلند الحيدري  وسعدي يوسف وغيرهم الكثير . 
في هذه القراءة  سنتعرف على واحدة من قصائد المجموعة ، وهي قصيدة ( اذا ... العراق ) ، وذلك من خلال الوقوف على التناص الحاصل فيها ،عبر الكشف عن مدى حضور النصوص الأخرى أو غيابها في النص ، والدور الذي تلعبه في تشكيل المعنى داخل القصيدة، ومدى إفادة الشاعر منها.
استخدم الشاعر عدنان الفضلي في قصيدته هذه اسلوب القرآن في استخدامه " اذا " في احدى سوره ، وهي سورة " التوبة " في الايات من " 1 " الى " 14 "، ليس مرة واحدة وانما كررها اثني عشر مرة لتاكيد فعلها ، ولخلق الصدمة عند المتلقي، والشاعر كذلك حيث كررها خمسة عشر مرة للاسباب ذاتها في قصيدته.
بدء نقول ان ( اذا ) في المعاجم العربية هي بمعنى : ظرف للزمان المستقبل يفيد معنى الشرط ، ويختصّ بالدخول على الجملة الفعليّة ، ويكون فعلا الشرط والجواب بعده مرفوعين ، ولا يجزم الفعل بعده إلاّ نادرًا ، ويدخل على الأسماء المرفوعة المتبوعة بفعل .
و" اذا" الشرطية هذه قد استخدمها الشاعر الفضلي خمسة عشر مرة في قصيدته ( اذا... العراق ) كظرف زمان تفيد  الشرط  ، ابتداء من " اذا الله " حتى " اذا ما حفظنا كل هذا": "اذا الله .. ، اذا المسيح .. ،اذا العراق .. ،اذا الاحمر .. ، اذا الناصرية ..، اذا الجنوب .. ، اذا الهور .. ،اذا القصيدة .. ،اذا الدعاة .. ،اذا المساءات البابلية ..، اذا المسافات .. ، اذا بيوت الله .. ، اذا الافئدة المعطوبة بالحنين ..، اذا العين والراء والالف الشامخ ..، اذا ماحفظنا كل هذا" ...
يذكرنا استخدام الشاعر لـ " اذا " بالايات القرانية ( 1 – 14 ) من سورة التكوير:
((إذا الشمس كورت [ 1 ]  وإذا النجوم انكدرت [ 2 ]  وإذا الجبال سيرت [  3 ]  وإذا العشار عطلت [ 4 ]  وإذا الوحوش حشرت [ 5 ]  وإذا البحار سجرت [6 ]  وإذا النفوس زوجت [7 ] وإذا الموءودة سئلت [8 ]  بأي ذنب قتلت [9 ] وإذا الصحف نشرت [ 10 ]  وإذا السماء كشطت [ 11 ]  وإذا الجحيم سعرت [ 12 ]  وإذا الجنة أزلفت [ 13 ]  علمت نفس ما أحضرت [ 14 ])).
تقول الايات :إذا حصلت هذه الأمور الهائلة، فان " النفس " ستعرف انه حل يوم الحساب " يوم القيامة " ، وانها ستحاسب عما قدمته.
فما الذي اراد الشاعر الفضلي قوله في قصيدته باستخدام اداة الشرط خمسة عشر مرة في قصيدة واحدة ، واتبع فيه اسلوب القرآن؟
هل اراد الشاعر ان يتناص مع القرآن ويعدد الامور العظيمة التي سوف تحدث بالعراق ليحدث امر اخر؟ ام انه اراد شيئا اخر؟
لنرى ذلك .
*" اذا الله .. فضّ بكارة الغيمة العراقية". ( في الاعتقاد الديني يمكن ان يحدث هذا ، على الرغم من مجازية بكارة الغيمة العراقية  ).
* " اذا المسيح .. ترجل عن صليبه". ( من المستحيلات حدوث ذلك بعد ان مات المسيح ).
*" اذا العراق .. تفتقت دمامله" . ( ممكن الحدوث ).
*" اذا الاحمر ..  انتفض على ذاكرته" . ( هنا اقرأ الاحمر على انه الدم ، يعني القتل – ممكن الحدوث).
* " اذا الناصرية ..عادت مدينة تكنس الغرباء" . ( اترك التعليق لانه سيرد في السطور القادمة – ممكن الحدوث ).
* " اذا الجنوب .. مسح عن وجهه الغبار" . ( نقول في المثل الشعبي " مثل السمك مأكول مذموم" هكذا هو جنوب العراق – ممكن الحدوث).
* " اذا الهور .. صار بساطاً" . ( مستحيل الحدوث ).
* "اذا القصيدة .. استدعت الناي وغنّت" . ( ممكن الحدوث ).
*" اذا الدعاة .. تطالهم صرخة الموسيقى" . ( من المستحيل الحدوث اذا كانوا دعاة للدين ، لان ذلك في غير مصالحهم).
* " اذا المساءات البابلية ..حجّت الى الزقورات السومرية " . ( تركيب مجازي - مستحيل الحدوث ).
* " اذا المسافات .. بين الرب والادعية / قصّرتها اجنحة النوارس" .( ممكن الحدوث في التفكير الديني ).
*" اذا بيوت الله .. كبّرت للوطن المؤجل" . (ممكن الحدوث ، بل هو الحاصل هذه الايام ).
* " اذا الافئدة المعطوبة بالحنين ..عادت وملؤها قصائد السيّاب".( ممكن الحدوث ).
* " اذا العين والراء والالف الشامخ ..يلتصقن بقاف لا تتقلقل" . ( من المستحيل الحدوث في الوقت الحاضر ).
النتيجة هي تساؤل الشاعر :
* " اذا ماحفظنا كل هذا ..ايصير في قبضتنا غير العراق ؟".
 تناصت القصيدة مع الايات القرانية في اسلوب تناولها للموضوع الذي تتحدث عنه ،فقد عددت الايات تلك الامور المهمة التي تحدث كمقدمة ليوم الحساب ، من مثل تكور الشمس ،وانكدار النجوم ،وصولا الى اقتراب الجنة ، اثنا عشر امرا مهما ورد في الايات تلك كلها تمهد لقيام الساعة ويوم الحساب.
اما الشاعر عدنان الفضلي فقد عدد خمسة عشر امرا هاما ، وبعدها تساءل قائلا :
*" ايصير في قبضتنا غير العراق؟ ".
القصيدة حبلى بتساؤلات كثيرة ومهمة ومطروحة دوما ، اذ انها جمعت الممكن الحدوث عن غير الممكن الحدوث ، كما جاء في الايات القرآنية ، من مثل:
* " اذا الناصرية ..عادت مدينة تكنس الغرباء" .
والمعروف عن مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار ، مدينة الشاعر ، انها من المدن التي تستقبل الغريب عنها وتكرمه ، وتحترمه ، لانها مدينة اهلها كرماء ، ويحترمون الضيف ، ولكن هناك وافدون اليها لا يستحقون التكريم والاحترام ، ومن هنا ينطلق الشاعر في طرح سؤاله ، وهو محق في سؤاله .
وهناك تساؤلات مستحيلة التنفيذ ، الا ان الشاعر الذي لا يعرف المستحيل يطرح مثل هكذا تساؤلات ، من مثل:
* " اذا المسيح .. ترجل عن صليبه" .
 هذا التساؤل يقع في باب المستحيل ، اذ انه لا يمكن ان يحدث بعد الصلب – ان صدقت حادثة الصلب  – ويترجل المسيح من صليبه .
ومن المستحيلات كذلك :
* " اذا الهور .. صار بساطاً" .
و:* " اذا المساءات البابلية ..حجّت الى الزقورات السومرية " . وغيرها الكثير.
ان " اذا " في السورة القرآنية ، و في القصيدة يمكن اعتبارها وحدة لغوية كاملة       " صوتيم " ، فاذا حذفناها من الاثنين لا يبقى لهما معنى يذكر ،تصبح الجمل التي تقدمتها ،جملا اخبارية ليس الا.
اذا كان القرآن في تلك الايات قد اخبرنا فيما لو حدثت تلك الامور العظيمة ستقع القيامة ، فان قصيدة ( اذا ... العراق ) هي الاخرى تخبرنا بمثل ذلك ، بعد ان يجمع اطراف العراق" اذا العين والراء والالف الشامخ ..يلتصقن بقاف لا تتقلقل" .
 بعد كل هذا يطرح يسأل الشاعر: " اذا ماحفظنا كل هذا ..ايصير في قبضتنا غير العراق ؟".
لقد ظل الشاعر خائفا من ان يتفتت العراق بهذه السياسية التي اصبحت قاب قوسين او ادنى من سياسة التجزئة والتفتيت .
قال السياب قبل نصف قرن في قصيدته ( قصيدة الى العراق الثائر) :
* (( لان " تموز " استفاق
      من بعد ما سرق العميل سناه ، فانبعث العراق )).
هذه صرخة شاعر في وجه دعاة التجزئة والتفتيت ، تناصت واسلوب القرآن  في سورة مهمة للانسان المؤمن بالاسلام ، وهي سورة " التكوير " التي تذكره بيوم القيامة حسب المفهوم الاسلامي ، ورسالة تنبيه من الشاعر للاسلاميين الذين يمسكون في دفة العملية السياسية ، بان العراق سائر الى التجزئة والتفتيت فاحذروا ذلك.

هذا الطرح ليس معناه ان الشاعر قد قدم قصيدته بصورة مباشرة ، بعيدة عن الفن الشعري ، بل انه صاغها بصورة فنية شعرية ، واستخدم فيها اسلوب قرأني ، فجاءت القصيدة ممتلئة بروح الشعر ، ونابضة بحيويته .


ليست هناك تعليقات: