التناص الابداعي في قصيدة ما رواه الهدهد للشاعر حازم رشك
داود سلمان الشويلي
القصيدة:
من ( الف) دهرك نازفا لـ ( الياء)
وبـ ( نون) كونك حكمة الاشياء
وبـ ( ميم) (من)
رؤياك محض تكشّف
وبـ (فاء) (كيف)
كفاية للرائي
وبخيط ابرتك
اتصال قيامتي بقراءتي
وغمامتي بغنائي
الواح طينك
في جريمة اصبعي
إني اشرعت اليك في ايمائي
لا (اين) تعرفها
الجهات
ولا (متى)
كل الجهات ، سوى الجنوب ، ورائي
ركضا اليك
فثم وجهك راكض نحوي
ونحوك راكض إصغائي
انا عبد شطك
قل لامي كيف انجبت الثريا
من نثيث الماء؟
هرّبت جذعي قبل
مريم
نازحا
ورضيت من جبريل بالاسراء
احرقت ناري في
لعلي
انست رئتاي خوفا
فانطفأت إزائي
اعددت متكأ
لموجة أحرفي
وشحذت سكيني بكيد نسائي
رملت خارطتي
بقيح حقائبي
وحقنت غربة زاجلي
بدعائي
اصغيت
هدهدك الطليق نحرته
إذ لم يعد بالخبز للفقراء
اطبقت جوعي
كي انيم قصائدي
فوجدتهن:
وسادتي وغطائي
بينا تساقطت
الرؤوس
وعطلت لغة البخور
شممت ريح حذائي
عند الغمام
سيحمد القوم السباخ
وينحتون من الضلوع خبائي
ما عدت اعلم
بين ان اطأ الثرى تيها
وبين اغوص في احشائي
عيسى هناك
فلذ بإهلك حازما
واقم بمفترق الصليب
عزائي
لذ بالمشاحيف
انتظار هواء
اشرب
صديد حقيبة سوداء
لا يجرمنك
إن جرفك بومة
مزجت مسيل الدمع
بالحناء
وعلى الرصيف
أساور ممجوجة
يبصق تبغ الليلة الحمراء
هذا قميصي
أين إخوة يوسف والذئب؟
أين تقاسموا اشرئي؟
قالوا:
تمرغ والنشيد
بعافر
صدقوا
لو اجتاحوا علي سمائي
يا صاحبي السجن
إما واحد يهب الملزك
خطيئتي ودمائي
وانا ولحم الطير
نصنع فلكنا
كيما ننبئ قرية
بفناء
بئران:
بئر ابي ، وبئر اخلتي
للآن يشخب فيهما
إروائي
قطع الحروف
وصولجانك زاحما
رطبي فأسقط في يد عزلاء
ما عدت اعلم
بين ان اطأ الثرى تيها
وبين اغوص في احشائي
اني اصوت
للصلاة على الثرى
وعلى الثرى
سيدلكم إمضائي
سران
في ربما
غفر الاله خطيئة الشعراء...
***
قلت في مفتتح كتابي (الذئب والخراف المهضومة) الصادر من دار الشؤون
الثقافية العامة – بغداد – عام 2001: (( لم يكن مفهوم "التناص" بعيدا عن
الدراسات النقدية التي سبقت ظهوره في النقد العراقي خاصة، والعربي عامة 00 اذ ان
مفاهيم كـ ( التأثر ، التضمين ) على سبيل المثال قد اخذت مجالها الواسع في تلك
الدراسات ، مما جعل من ( السرقة ) بانواعها ، تأخذ هي الاخرى مداها الواسع ايضا في
تلك الدراسات ، وخير مثال على ذلك ، الضجة التي اثيرت حول رواية عبد الخالق
الركابي " الراووق " فمن الدارسين من وصمها بالسرقة ، ومنهم من حاول
تخفيف وطأة هذه التهمة ، وعدها متأثرة بهذا النص او ذاك ، ومنهم من اصبح ملكيا
اكثر من الملك عندما نفى عنها ( السرقة ) و ( التأثر ) على السواء 00 وقد حدث كل
ذلك في الوقت الذي كان ( للتناص ) دور كبير في الدراسات النقدية ، إن في الخطاب
النقدي الاوربي والامريكي ، وإن في الخطاب النقدي العربي ( في المغرب العربي خاصة
) 0 ولو كان نقادنا قد اطلعوا - وقتذاك - على تلك الدراسات لما حصلت مثل تلك الضجة
0
لقد قلل ( التناص ) كثيراّ من وطأة تهمة (السرقة ) وراح بعض نقادنا -
جرياّ على عادة الغربيين - يعدون ( السرقة ) - بكافة انواعها - من باب ( التناص )
دون ان يفرقوا بين نوع واخر من انواعها ، والتي سبقنا في التفريق بينها نقادنا
العرب قبل اكثر من الف عام ، وكتبوا حولها المجلدات 0
ان ( التناص ) كآلية ومقترب نقدي ، افادت كثيرا النص الابداعي ومؤلفه
على السواء ، اذ برأ المبدع من تهمة ( السرقة ) او ( بعض انواعها ) وفي الوقت نفسه
خدم النص عند اخراجه من ( خانات ) السرقة)) 0
اما عن آليات التناص على مستوى الفحص والدراسة ، فأنها - كما في
المصدر السابق : (( هي نفسها آلياتها في الانتاج ، والمتوصل اليها من خلال عملية (
تفكيك ) النص ، لكي تشتغل تلك ألاليات على مستوى الفحص ، بصورة صحيحة ودقيقة
للوصول الى مرحلة الفهم ، ومن ثم مرحلة ( التأويل ) الذي اكده ( ريفاتير ) عند
استخدامة للتناص في اخر اعماله عن الاسلوبية على اعتبار انه : ( مرتبة من مراتب
التأويل ) ومن ثم بناء المعنى وانتاجه . وهذا مايجب على التناص ( اثناء الفحص )
الوصول اليه((.
***
بداية من العنوان (عنوان الديوان والقصيدة) ، يعمل التناص الديني –
القرآني خاصة وليس الفكر الديني - عمله في النص الابداعي (الشعري) في ديوان الشاعر
العراقي حازم رشك "ما رواه الهدهد "، وفي القصيدة التي حمل الديوان
عنوانها خاصة.
فالعنوان يحمل مفردة لها مجالها التناصي الذي تعمل عليه وفيه ، وهي
الهدهد.
فهي من ناحية، تعمل ضمن مجالها الاجناسي الحيواني (عالم الطير ) وما
يشكله هذا العالم من فضاءات ومعان متولدة في الذاكرة الحية ، اذ ان الطيران عالم
تنثال منه معان غير المعنى الحقيقي الظاهري الذي يعطيه مباشرة.
فهو عالم السمو ، والحرية والانطلاق،وفي الوقت نفسه عالم التراسل ،
وعالم الهروب والاختفاء السريع .
ومن ناحية ثانية ، هي تعمل ضمن المجال الديني (القرآني خاصة).
فقد ذكر القرآن الكريم طير الهدهد في سورة النمل عندما اورد قصة نبي
الله سليمان: (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين).
والسبب في ذلك ، ان سليمان يريد الحصول على بعض المعلومات عن امر ما ،
وكما ترويها الكثير من التفاسير القرآنية (1) ، وكان له ما اراد واكثر.
وهذه الوظيفة استخدمها الشاعر في القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها
، وهي وظيفة معرفة ما هو مجهول .
وقد استخدمها الشاعر في قصيدة اخرى تحمل عنوان " لوّح الى
الاثداء" في مقطع شعري يقول فيه:
كنا صغارا
ما انتظرنا هدهدا
يأتي من المجهول بالانباء
في هذا المقطع كان قد توضح كل شيء من وظيفة الهدهد.
إذن ، كان استخدام لفظة الهدهد والمعاني الحافة لها في عنوان المجموعة
والقصيدة، له ما يبرره ، لان لفظة الهدهد تستدعي الى الذاكرة بعض وظائف الطير ،
وهي ايصال المعلومات عن شيء مجهول، ان كان ذلك بقصد (غراب وحمامة نوح، مثلا) او
دون قصد ، (هدهد سليمان عندما اخبره عن بلقيس).
و التناص المستخدم في قصائد الديوان وفي هذه القصيدة خاصة ،من نوع
التناص المضموني ،الاعتباطي . (2)
فلولا ما تخزنه الذاكرة عن قصة الهدهد والنبي سليمان المذكورة في
القرآن الكريم ، لما امكننا ان نفهم القصد الذي رمى اليه الشاعر(منتج النص) والذي
سنتكلم عنه في السطور القادمة.
فالهدهد بدأ يروي لنا ما يريد ان يخبرنا به الشاعر، وهو المضمون الكلي
والتفصيلي لقصائد الديوان.
***
تضم المجموعة ستة عشر قصيدة ، كلها كتب على شكل قصيدة التفعيلة ،
وبتنظيم دقيق لقافية اغلب قصائد المجموعة، الا انه – الشاعر - لم يكن قسريا في
استخدام تلك القافية، لهذا جاءت منسابة كأنسياب ماء النهر ، تحمل بين مفرداتها بوح
الشاعر ، الانسان المحتار في القرن العشرين .
في هذه السطور سندرس تجليات التناص الابداعي في قصيدة (ما رواه
الهدهد).(3)
***
تفتتح القصيدة - كما تفتتح بعض سور القرآن - بحروف مقطعة ، وكذلك كما
يستخدم الكهان والصوفية الحروف في كتاباتهم (4) ، وكلا من الكاهن والشاعر والصوفي
الى حد ما هو رائي ونبي .
وهذا بحد ذاته تناص لعوالم هي وعالم الشاعر على خط واحد ، فأسلوب
القرآن الكريم ، يضعه دارسو بلاغته بين النثر والشعر ، فلا هو نثر ولا هو شعر ،
الا انه يرتبط بنثر الكهان بأكثر من وشيجة، منها السجع ، وفي الوقت نفسه ، فإن
اسلوب الكتابات الصوفية تأخذ من الاثنين الكثير من اسلوبهما ، وها هو الشاعر حازم
رشك يتناص من حيث الشكل على اقل تقدير مع الجميع.
من ( الف) دهرك نازفا لـ ( الياء)
وبـ ( نون) كونك حكمة الاشياء
وبـ ( ميم) (من)
رؤياك محض تكشّف
وبـ (فاء) (كيف)
كفاية للرائي
***
وفي مقطع آخر يشبه (الشاعر = بطل النص = الشخصية التي تتحدث عن نفسها)
جذعه (هو نفسه) بجذع النخلة التي هزتها السيدة مريم العذراء (كما ورد في القرآن) ،
الا انه جذع نخلة هارب من السيدة مريم ، أي ان لا فائدة ترجى منه ،و في الوقت نفسه
فهو راض ٍ بإسراء جبريل به.
وهنا يعيدنا الى قضية الهدهد ، والطير بصورة عامة ، والى قضية الهروب
الى البعيد البعيد .
فهو جذع هارب ، وهروبه الى خارج المكان .
*هرّبت جذعي قبل مريم
نازحا
ورضيت من جبريل بالاسراء
والاسراء هو انتقال من مكان الى اخر.
***
ولم يكتف الشاعر بهذه التناصات القرآنية . فها هو يشبه فعله الخاسر ،
كما صور هروبه من حاضره ، بإنطفاء النار التي آنس منها سيدنا موسى ،(( وهل أتاك
حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو
أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك
بالواد المقدس طوى)). ( طه : 9 -12 )
*احرقت ناري في لعلي
انست رئتاي خوفا
فانطفأت إزائي
يا لسوء حظ الانسان الذي تنطفيء الجذوة المشتعلة في نفسه ، لإعتماده
على (لعل) ، فبدلا من ان يجد مبتغاه انطفأ امامه كل شيء.
***
ويتناص النص مرة اخرى مع القرأن وقصة زوجة العزيز وكيدها ، ونساء
مملكتها، الا ان النص بهذا التناص يريد ان يخبرنا بسخرية القدر وما يخفيه لنا من
امور، كما تعودناه في تناصاته الاخرى.
فعندما تنطفيء الجذوة المشتعلة في النفس ، وعندما تعد كل شيء استعدادا
لما تأمل ان يأتيك ، لا تحصد سوى الخيبة.
*اعددت متكأ لموجة أحرفي
وشحذت سكيني بكيد نسائي
رملت خارطتي
بقيح حقائبي
وحقنت غربة زاجلي
بدعائي
اصغيت
هدهدك الطليق نحرته
إذ لم يعد بالخبز للفقراء
***
وتستمر تناصات القصيدة مع القرآن ، لتصور لنا اخفاقات الشاعر وخيباته
، دون ان يقع في التصوير المباشر لصور القصيدة ، وليكون التناص له اسلوبا وآلية
لتقديم قصيدة غير مباشرة ، وفي الوقت نفسه ، قصيدة غير متهمة بالسرقة ، وغير مثقلة
بالتنصيص ، والاقتباس، وغير ذلك.
وفي مقطع شعري اخر ،ينهي الشاعر قصيدته وتناصاته بقول ما يجب ان يقال،
بعد قراءة القصيدة وتناصاتها:
*ما عدت اعلم
بين ان اطأ الثرى تيها
وبين اغوص في احشائي
إذ تبقى حيرة الشاعر وضياعه ، ولم تفد به اخبار الهدهد.
***
فمع القرآن ، تناص الشاعر في قصيدته هذه مع اكثر من قصة قرآنية ، او
شخصيه ، او حدث.
فنجد مثلا ، انه استخدم اضافة لما سبق ، شخصية النبي عيسى ، النبي
يوسف واخوته ،فتية السجن مع يوسف ، الذئب .
***
فضلا عن التناص مع القرآن ، هناك تناصات مع اجناس ادبية اخرى ،
كالحكاية الشعبية مثلا .
في حكابة شعبية تتداولها السنة اهالي المدن الواقعة على ضفاف النهر في
جنوب العراق ، تذكر هذه الحكاية ، ان وحشا يخرج من النهر ليلتهم الاطفال ، وقد
اطلقوا عليه اسم (عبد الشط )، وهذه الحكابة ذات جذور اسطورية سومرية نابتة في
ثقافة ابناء الناصرية (السومرية) التي ينحدر منها الشاعر.
في هذه القصيدة يتشبه (ولا اقول يتماهى) الشاعر (بطل النص) بعبد الشط
هذا ، الا انه لم يكن ذلك الحيوان المفترس ، بل هو حيوان يطرح الاسئلة فقط، وهذا
يذكرنا بإسطورة ابي الهول ، او وحش طيبة كما جسدته اسطورة اوديب ، عندما يطرح
السؤال على المارة ، ومن يخطيء في الاجابة يفترسه.
يبني الشاعر تناصه الابداعي من خلال السخرية ، فبينما عبد الشط وحشا
مفترسا ، يتحول الى سائل عن امر صاغه الشاعر بكل الفة وحميمية وهو السؤال عن انجاب
الثريا من نثيث الماء:
*انا عبد شطك
قل لامي كيف انجبت الثريا
من نثيث الماء؟
***
واخيرا ، كان النص الشعري (ما رواه الهدهد) نصا شعريا مكثفا، استخدم
الشاعر التناص في بناء صوره الشعرية .
وكان الشاعر موفقا على تقديم مثل هذا النص على مساحة قصائد ديوانه
الاول.
***
الهوامش:
1 - قال ابن زيد في تفسيره:(( أول ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد
فسأل الانس عن مائه ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء
فالجن ، فدعا الجن فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء وإن يكن أحد من جنودك يعلم له
ماء فالطير ، فدعا الطير فسألهم ، فقالو : ما نعلم له ماء ، وإن يكن أحد من جنودك
يعلمه فالهدهد ، فلم يجده ، قال : فلذاك أول ما فقد الهدهد .
* لاعذبنه عذابا
شديدا أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين.(21 (
وقال كذلك في قوله: أو ليأتيني بسلطان مبين، قال: بعذرأعذره فيه.
* فمكث غير بعيد
فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين .(22 )
قال ابن زيد في قوله : أحطت بما لم تحط به، قال : ما لم تعلم .
*إني وجدت امرأة
تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم [23 ] * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون
الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون [24 ] * ألا يسجدوا
لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون [25 ]
قال ابن زيد في قوله: الذي يخرج الخب ء في السموات والارض، قال : خب ء
السماء والارض : ما جعل الله فيها من الارزاق ، والمطر من السماء ، والنبات من
الارض ، كانتا رتقا ، لا تمطر هذه ولا تنبت هذه ، ففتق السماء ، وأنزل منها المطر
، وأخرج النبات )).
(تفسير ابن زيد - تفسيرابن زيد - عبد الرحمن بن زيد بن اسلم -
المستل من تفسير الطبري - اخرجه وعلق عليه ووثق مصادره: داود سلمان الشويلي)..
2 - الذي لا يمكن الوقوف عليه في النص الا اعتماداً على ذاكرة
المتلقي 0 (راجع كتابنا : الذئب والخراف المهضومة).
3 - صحيح ان الشاعر لم يثبت تاريخ كتابته لكل قصيدة ، الا انني
اذكر ان الشاعر قد قرأ هذه القصيدة في تسعينات القرن الماضي.
4 - مع اختلاف الغاية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق