خلود
البدري
شاعرة
تكتب تحت وهج المخيلة المتقدة
داود
سلمان الشويلي
عندما
اريد ان تبقى كتاباتي زمنا اطول اقوم بتقييدها
على الورق ، ان كان ذلك على شكل كتاب مطبوع او مخطوط ، حتى انني نشرت الكثير من
مواضيعي على النت – في صفحتي الشخصية – لكنني لم اطمئن عليها حتى اراها منشورة على
الورق ، والا هي والهباء سواء ، حيث تبقى افتراضا عرضة للضياع.
والشعراء
– والكتّاب كافة – الذين يكتبون على الفيس بوك ليس سبة لهم، ولا هو عيب عليهم، وشعرهم
هو الكتابة بصيغة افتراضية ، اذ لا يمكن ان يظل شعرا الا اذا قيد على الورق ، لانه
عرضة للفقدان والنسيان والاندراس.
هذه
الخاصية هي التي يختلف فيها الشاعر الفيسبوكي ( الافتراضي ) عن الشاعر الاخر الذي
يقيد شعره على الورق في ديوان مطبوع او في غيره .
خلود
البدري شاعرة يمكن ان نطلق عليها مصطلح ( شاعرة فيسبوكية ) لانها تنشر اشعارها على
الفيس بوك حالها حال الكثيرين من الشعراء الذين يتصفون بهذه الصفة، وتقرأ ما تريد
ان تقراه على الفيس بوك ، وهي كالكثيرين من الشعراء الذين يستفيدون من هذه التقنية
العالية في ان تكون الحياة سهلة ، يسيرة ، ممكنة .
شعرها
الذي لم يقيد في ديوان مطبوع او مخطوط ، مرسوم في صور عدة ، اذ تعتمد شاعريتها على
الرسم بالكلمات ،ليس بالفرشاة والالوان،على الورق الافتراضي ، لا على الكنفاص، فتنثال الصور الشعرية على ذائقة المتلقي .
لنتساءل
:من اين ياتي الشعر؟ من أي منطقة ينبع ؟ هل حقيقة ينبع من وادي عبقر الذي قال به
الاقدمون ؟ ام من واد اخر لا نعلم عنه شيئا؟
ام ان شيطانا ياتي به من لا مكان ؟ ان كان الشيطان هذا ذكر ام انثى؟
الشاعره
خلود البدري دلتنا على منبع شعرها ، ومن
اين ينطلق ، لا كما عند شعرائنا القدامى من وادي عبقر ، ولا هو شيطان من شياطين
الشعر، انه شيء اخر.
قالت
الشاعرة البدري و بصورة مكثفة بكثافة الشعر الذي يأتي من القلب والوجدان والشعور:
* (( في هذا الأحتطاب ..
تجردت المخيلة !
إلا من موقد الحطب
الذي أوقدته تحت كلماتي !!)).
اذن
ينبع الشعر – شعرها على اقل تقدير – من المخيلة الملتهبة ، المتأججة بنار موقد من الحطب
الذي راحت تطبخ – اذا صحت التسمية – عليه كلماتها.
فأي
كلمات هذه التي اشتعل موقد الحطب في المخيلة تحتها ؟ لنرى تلك الكلمات في شعرها ،
ماذا تفعل ،وما هي المشاعر والاحاسيس التي تكونها؟ وباية صور تشكلت؟
***
* ((.. امرأة ..
تلوذ بوشاحها !
هذا صيف ..
يودع فيه ..
آب _ تموز
قيظ ..
وحرارة حد الجنون ..
.........
هياكل من ركام
هياكل من ركام
تحت بقايا ..
من ظهيرة
يتوشحها ..
السواد الرمادي!
.............
كومة من عناء
كومة من عناء
هلامي متحرك
كفاه تمتدان ..
لجوع محنط !!)).
اول
ما يلاقيك في هذه القصيدة هو العدم ، ليس العدم الوجودي الذي تحدث عنه الفلاسفة
عبر التاريخ ، انما عدم الشاعرة التي ترى الاشياء امامها على شكل غير متشكل ...
هلام ، كومة من عناء ، وجوع محنط ، جوع دائم.
رسم
دقيق لواقع العراق الملتهب بالحرارة والجوع والقتل اليومي الرخيص ، ومن ثم لبس السواد
حزنا عليه.
هذه
واحدة من كلمات الشاعرة الحارة التي جاءت من مخيلتها الملتهبة بموقد الحطب الشعري.
***
والكلمات
التي وضعتها على الموقد هي هذه المفارقة في ان تهرب منه فتجد نفسها وقد هربت اليه
، الى الصوت ، فهي تائهة بين الاثنين ، بين الصوت الذي يباغتها وبين الصوت ذاته
الذي تعدو اليه.
*(( ألا إيها الصوت ..
يباغتني الهروب ..
أباغته ..!
وأعدو منك ..إليك !)).
فيها
التباس في المعنى ، بين ان تكون الهروب منه ( منك) تصبح اليه ( اليك) ، تسبقه اليه.
***
ومن الكلمات التي تنبع من مخيلة متوهجة وهي تفور
على نار الحطب هذه الصورة الرقيقة للشاعرة ، تحملها كلماتها التي على الموقد في
المخيلة المتأججة التي تمور فيها الاشياء لتنسج صور شعرية جميلة ورائعة ، ببلاغة
الشاعر المقتدر.
صور المساء، واجواءه الرومانسية ،وشفتيها التي
اطبق عليهما ذاك المساء بكل ما يحمل من رومانسية هي صورتها الشعرية.
*(( أنا ..
من ..
أطبق المساء
جفونه ..!
على شفتيها .((
***
وعندما نقرأ القصيدة الاتية تنهال على ذاكرتنا الاساطيراو الحكايات:
*(( في النهار ..
أحمل فانوسي !
أبحث ..............
عن الصدق ..
في ضوء الشمس !)).
فانوس
ديوجين ، فانوس الحقيقة ،تتناص مع حكايتين احداهما حكاية ديوجين وهو يحمل مصباحه
في وضح النهار باحثا عن الحقيقة المفقودة .. وحكاية الاعمى الحامل للمصباح في ليل
حالك وعندما يسأله احدهم عن ذلك يجيبه قائلا: اخشى ان يصدمني الاخرون.
هو
يعتبر الناس الاخرون المبصرون عميان لا يرون ، وهي الحقيقة في الاخرين.
ولو
ان الشاعرة قد ابقت على:
* (( أحمل فانوسي !
في ضوء الشمس !)).
لكن
ذلك اكثر شاعرية ، لان قصيدة النثر من ضمن متطلباتها الرئيسية : التكثيف في
العبارة ،والاقتصاد في اللغة ، و مجهولية اتجاه الاشارة، وغرابة الصورة.
ولتسامحني
الشاعرة في قول ذلك ،لان ما تريده ذائقتي الشعريه – انا المتلقي - ان تقرأه من هذه
القصيدة ،قرأته هكذا.
و تتناص
مع الحكاية الثانية بقلب الفكرة .
في القصيدة يكون الوقت نهارا بوجود ضوء الشمس ،
وفي الحكاية ليلا ، وكذلك فالقصيدة هي تقدم صورة للبحث عن الصدق الضائع ، اما في
الحكاية فخشية من اصطدام الاخرين به لانهم عمي لا يرون وهم المبصرون.
هذا
القلب في الصورة والفكرة جعل هذه القطعة النثرية قصيدة فيها شاعرية، واحساس جميل
بكل لفظة وكل جملة .
***
* ((
تخليت ُ..
عن
فيض أحلامي ..!
و ..
ركبتُ ..
أحزاني
..!
أمزق
الحرف ..
فيمزقني ..!))
والحيرة
تلفها بين ان تمزق الحرف او هو الذي يمزقها ، فينقل ذلك فيض من الصور الشعرية.
***
* (( في نافذتي ..
أشرق الفجر ..
فأضاءت ..
وأضاء قلبي .
وتقول
في قصيدة اخرى :
* ايها الضوء..
ستبحر سفينتي نحوك ..
وستغيب فيك ..
يا أنتَ..
يا أفق الأفق ..
ربما اختفي ..
ولكني ..
سأحصد أَلمي وألمك !)).
اذا
كان ضوء الفجر قد اضاء قلبها في القصيدة الاولى ، فانها في القصيدة الثانية تخاطبه
قائلة (ربما اختفي ..) و" ربما" هذه
احتمال قائم التحقيق، ورغم ذلك فانها تؤكد على انها : (سأحصد أَلمي وألمك !).
انها غائبة في الضوء الا انها متألمة ، والضوء كذلك.
***
الامل
المفقود الذي تبحث عنه ، تنقله هذه الصور الشعرية المرسومة بالكلمات لشيء كان
واقعا طبيعيا يزهو بالالوان:
*
((هاهي الشمس تغيب..
يلتهمها
الافق
وتطوي
اليوم
ظلالها ..
تداعب
الماء
توشوشه ..
غداً..
سأحتضنك
من جديد .!..))
***
* ((
قبسٌ من النورِ
يقتربُ ..!
و..
أنا ..
أبحث‘ ..
عن
الضوء !))
في
حزنها القاتل تناغي قبس النور الذي يقترب دون ان تشعر بالضوء الذي حولها لان
الاحزان قد اعمتها عن رؤيته .
***
*(( يا طاقة الحزن ..
لملمي
المنهمر ..
وأنبثقي ..
من
بين أصابعي ..
عين
ماء !))
ان
حزن الشاعرة له طاقة بحيث ان يستيع – بعد ان تطالبه – ان ينبثق من بين اصابعها
افراح جميلة تزهو بها ايام الشاعرة بديلا عن الحزن.
والحزن
هذا من خلاله تولد القصيدة:
* ((
ينبثق الضوء ..
مزخرفا
المكان ..
باعثا
فينا
قصيدة ..
نجدلها ..
بماء
الورد
والألوان .))
وقولنا
في بداية الدراسة ان الشعر عندها ينبع من المخيلة الملتهبة ، المتأججة بنار موقد
من الحطب الذي راحت تطبخ عليه كلماتها، ليس هذا معناه ان اختلافا حصل في منبع
الشعر عند الشاعرة .
تبقى
المخيلة المتأججة المنبع الاساس لشعرها ، بشرط ان ينبثق الضوء ليزخرف
المكان،وليبعث القصيدة ..
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق