الأحد، 15 يونيو 2014

البورترية ... قصيدة تشكيلية الشاعر كاظم الركابي و الشاعرة رملة الجاسم انموذجا

البورترية ... قصيدة تشكيلية
الشاعر كاظم الركابي و الشاعرة رملة الجاسم انموذجا
داود سلمان الشويلي
كتب الصديق الروائي احمد غانم عبد الجليل مرة على جدار صفحته:
(تتحير الكلمات في اختيار ألوانها عندما تبدأ رسم ملامح وجهك الــ...
ألم أقل لكِ تتحير الكلمات؟...).
بين لفظة ( الكلمات ) و لفظة ( الوانها ) ولفظة ( ملامح ) يقف الشعر - وكذلك الرسم - متحيرا في كيفية ربط هذه الالفاظ فيما بينها ، لتكوين قصيدة كاملة الشروط  الفنية ليطلق عليها هذا الاسم ، او انشاء لوحة تشكيلية تزخر بالخطوط المعبرة ، وبالالوان المنسجمة ، وبالموضوع الانشائي الدال عن نفسه ، والتوزيع المدروس للضوء.
والرسم فن مستقل بذاته ، له عالمه الخاص ، ان كان ذلك لمنتجه او  لمتلقيه ، وهو بابسط احواله تعبير فني و تشكيلي على سطح ما ، بواسطة الخط والضوء والظل واللون .
فاذا كان الرسم يستخدم القلم – مهما كان لونه – والسطح ، فان الشعر هو الاخر يستخدم الكلمات وسطح الورقة او الذهن.
واذا كان الرسم يقدم صورا للاشياء ذات حساسية عالية من القبول والرضا الروحي والنفسي ، فان الشعر كذلك يرسم صورا تأخذ لها الوانا طبيعية في ذهن المنتج والمتلقي .
اما لو قدم الرسم ايقاعه من خلال الهرمونيكا التي يتبعها في مزج الالوان ، وفي توزيع الظل والنور ، وكذلك الكتل ، فان الشعر هو الاخر لا يكون شعرا ما لم يكن له ايقاعه الخاص ، ان كان  هذا الشعر عموديا او تفعيلة او نثرا ، فلكل قصيدة ايقاعها الخارجي ، او الداخلي ، كاللوحة حيث يكون لها ايقاعها الخاص الذي يحس به المتلقي.
القصيدة ترسم موضوعها ، من خلال صورة واحدة ،او عدة صور ،واداتها في ذلك الكلمة ، الكلمة التي تكون اساس القصيدة ،وهي التي تكون مسؤولة عن جعل صور القصيدة ملونة ام غير ملونه ، حزينة ام مفرحة .
واللوحة كذلك تقدم نفسها بما تحمله من موضوع مرسوم ،وملون ، وموزع الكتل ، في تناسق هارموني يجعل المتلقي ينبهر بما يرى ، فتصله رسالة العمل لتترك عنده انطباعا مملوء بالدهشة والحيرة التي تصنع الاسئلة.
والبورتريه هو فن رسم الشخصية من وجهة نظر الرسام الذي يرسمه. وهو أحد أنواع الرسم التي ينظر إليها الفنانون على أنها معقدة، لاعتمادها على تقديم الشخصية عبر ملامح الوجه ، لان هدفه هو إظهار ملامح الوجوه وتعبيراتها.
امامنا قصيدتين ، احداهما كتبت باللهجة العامية ، اي من الشعر العامي العراقي ، والاخرى كتبت باللغة الفصحى ، والقصيدتان قصيرتان تتحدثان عن موديل للرسم ، بين القصيدتين تقف اكثر من ثلاثين عاما مرت من عمر القصيدة الاولى.
القصيدة الاولى هي للشاعر العامي المعروف المرحوم كاظم الركابي ، بعنوان ( الى رسامة ) كتبها في ثمانينات القرن الماضي ، حيث سمعتها من فم الشاعر.
القصيدة الثانية للرسامة والشاعرة رملة الجاسم بعنوان ( موديل ) كتبتها في هذا العام او الذي سبقه ، و الشاعران من محافظة ذي قار – مدينة الناصرية.
في قصيدة "الى رسامة" للشاعر الركابي ينقل لنا حوارا جميلا ، بين شاعر ورسامة وعدته ان ترسم بورتريه له ، و مضت الاعوام دون ان ترسم ان تنفذ وعدها:
*  (( ﮔالت
وصار من ﮔالت ﺇسنين 
وجهك المملي حنين 
أحله لوحه
ﺇنتظرتچ ترسمين 
ذاكه يوم وهاذه يوم 
لاني أحمر 
لاني أخضر 
لاني ابيض لاني أزرگ
ﺇسألتها ..
ﺇشلون
ﺇعتذرتلي
ماﻠﮔيت ﺇبلون وجهك عندي لون)).
***
فيما تكتب الفنانة التشكيلية والشاعرة " رملة الجاسم " قصيدتها ناقلة لنا صوت شخص اعد نفسه ليكون موديلا ترسمه الفنانة كما تشتهي هي ، عندها تقول له  : (أحاول جهدي ولكن).
* (( قال ارسميني
كما تشتهين قدر المستطاع
أحاول جهدي ولكن
كيف سأرسمُ وجه َ الضياع
شحّةٌ في المشاعرِ
قحط ٌ في المتاع)).
***
في قصيدة الركابي يكون السبب الذي يقف وراء عدم رسم وجه الشاعر من قبل الرسامة هو انها (ماﻠﮔيت ﺇبلون وجهك عندي لون) لان وجهه (وجهك المملي حنين ).
فيما وجه الموديل الذي يقف امام الرسامة " رملة " يعكس ملامح الضياع: (كيف سأرسمُ وجه َ الضياع).
في كلا القصيدتين توجد رسامة انثى ، وفي كلتهما يراد رسم بورتريه لرجل ذكر ، وكلتهما تقف حيرة الرسامة امام وجه الموديل ، لانه وجه لا يمكن ان يرسم ، فالالوان التي تعكس ملامح الوجه الشعورية والنفسية غير مهيأة لرسم ذاك الوجه، وتعكس الإنفعالات الذاتية له لتعبر عن الحزن والحنين والضياع ، فتظل الحيرة والدهشة ممسكة بالرسامة.
الرسامة الاولى تحتار في اختيار لون يمكن ان تعكس به ملامح الحنين التي ترتسم على وجه الموديل ، اذ لم تجد اللون الذي يمكنه من نقل ملامح الوجه وانفعالاته الشعورية والنفسية:
* ((ﺇشلون 
ﺇعتذرتلي
ماﻠﮔيت ﺇبلون وجهك عندي لون)).
فيما الرسامة الثانية  تقع في المشكلة نفسها ، حيث انها لم تجد بين الالوان او اختلاطها اللون الذي يعكس ملامح الوجه المليء الضياع لان الملامح قد تشوشت ، فاحالت المشاعر الى الضيائع ، تائهة في اللاشيء :
* ((كيف سأرسمُ وجه َ الضياع
شحّةٌ في المشاعرِ
قحط ٌ في المتاع)).
ان القصيدتين اعلاه قد تضعنا امام مسالة خطيرة هي عن كيفية ان يظل الفنان التشكيلي حائرا ملتبسا في امر الوانه عند رسم موضوعا ما ، حيث تظل الالوان شحيحة في نقل المشاعر والاحاسيس ،شحيحة في ان تنقل لنا نحن المتلقين ما كان يشعر به وجه البورتريه هذا ، لتعكس شخصيته .
فالاول تحس الرسامة انه وجه ممتليء بالحنين ، فتظل حائرة في رسمه ، وفي اي لون تختاره لرسم ملامح الحنين التي تعكس الشخصية التي يمثلها.
اما الثاني فان الرسامة تقرأ فيه ملامح الضياع ، فتحتار في اي لون تختاره ليمثل لها لون الضياع الذي يعيشه الوجه ، ومن ثم الشخصية؟
ان الشاعر كاظم الركابي ، والشاعرة رمله الجاسم عكسا في قصيدتيهما الحيرة التي عاشتها الرسامة في رسم وجوه موديليها ، لانها وجدت الالوان قاصرة عن تمثيل ما رسم على الوجوه من ملامح الحنين في الاول ، والضياع في الثاني.
هكذا يتفجر الشعر من مواضيع سهلة وبسيطة لينسج عالما شعريا كبيرا باقصر ما يمكن من الصور الشعرية ، والكلمات المترابطة فيما بينها  بسحر واندهاش.

Top of Form



ليست هناك تعليقات: