" القبة " من وحدة عمرانية الى وحدة تشكيلية رامزة
" الفنانة التشكيلية وداد الاورفلي انموذجا "
داود سلمان الشويلي
القبة هي وحدة انشائية / عمرانية لنوع من الاقبية تستخدم للتسقيف،
وأبسط أشكالها هو نصف كرة مجوفة يقف على مجوعة من الأعمدة أوالجدران .
وقد عرفت القباب بشكلها البدائي قبل الإسلام فكانت إما صغيرة مكونه من
قطعة واحدة أو مبنية بعدة طبقات مركبة ، أما بعد الإسلام فبدأ استخدام القباب
الحقيقية ذات الهيكل الداخلي المتصل والموحد.
واستخدمت القباب لتسقيف الأكواخ الطينية والمخازن والقبور. بعد ذلك
تطور استخدامها بتطور مواد البناء حين شاع استخدام الطابوق والحجر على أيدي الأمم التي توالت على المنطقة.
وظلت المعرفة بالقباب في تلك المنطقة حتى انتقلت إلى الإغريق وأول ما
استخدمه الإغريق كان في المقابر على شكل قباب منحدرة مدببة، كونها كانت جديدة على
بيئتهم البنائية التي استغنت عنها بخامة الحجر، وذلك باستعمال أسلوب الأطر الحجرية
(عمود- جسر) الذي برع به الكنعانيون والمصرين. وفيما عدا ذلك لم تحضى القباب
بأهمية كبرى في العمارة اليونانية القديمة، ولم تتطور لديهم، حتى جاء الرومان.
نادرا ما تكون القبة كروية تماما، فأشكال القباب تختلف حسب مواد
البناء المستخدمة، التكنولوجيا المتوفرة، الطرز المعمارية السائدة وغيرها من
المؤثرات. فهناك القباب المستديرة والمضلعة والمؤلفة من دور واحد أو دورين أو
أكثر, وهناك القباب ذات الزخارف الدقيقة, والأخرى المغطاة بصفائح الذهب أو الرصاص.
تطلى القباب بقطع الذهب وسبائك الذهب وهي منتشرة في عدد من البلاد
الإسلامية في فلسطين والعراق وإيران، أشهرها على الإطلاق قبة الصخرة في فلسطين. أما في العراق الذي هو بلد القباب الذهبية التي بنيت على
أضرحة الأولياء وأئمة المسلمين، وتعد قبة أمير المؤمنين أعلى قباب الأئمة من آل
البيت عليهم السلام وأعظمها دقة وأكثرها تنسيقا وأنضرها بهاءً، إذ يبلغ ارتفاعها
من القاعدة إلى فوق الرأس المخروط خمسة وثلاثين مترا ومحيط قاعدتها خمسين مترا
وقطرها ستة عشر مترا. ( راجع يوكيبيديا بتصرف)
وفي الفن التشكيلي استخدم الفنان القبة كتكوين اساسي لتشكيل موضوعه
الانشائي او كوحدة زخرفية جمالية ، فابدع في رسم لوحات ذات قيمة فنية رائعة .
فهناك من الفنانين من ركز في رسمه لها على المنظور ، والنسب والتناسب
، ومنهم من ركز على الزخارف المصاحبة لها فعمد على الاهتمام بها ، وهناك من دمج
الزخرفة والمنظور واضاف عليهما من الموروث الشعبي حيث نجد اللوحة قد اثتت بكل ما
هو شعبي قي الفعل او التفكير ،ومن الفنانين من ركز على الروحانية التي تتصف بها
القبة من خلال رمزيتها في الجوامع والاضرحة .
وهكذا تنوع النظر الى القبة عند الفنان التشكيلي العراقي خاصة منذ ان
بدأت العمارة بها ، وبدأ الفن التشكيلي يستلهما .
وكانت رسوم الفنان التشكيلي الكبير يحيى الواسطي التي زين بها كتاب
مقامات الحريري تضم في تكويناتها القبة التي استخدمها الفنان كغطاء لما تضمه
اللوحة من بشر واشياء اخرى ، وكذلك لاعطاء اللوحة جوها الاسلامي ، فضلا عن وجودها
الزخرفي .
وراح الفنانون بخيالاتهم في التعبير عن القباب بشتى الاساليب الفنية،
وبقيم فنية وجمالية مختلفة ،وبالوان عديدة، ليحافظوا على هذا الرمز الانساني الجمالي
والروحي .
الفنان محمدين العراقي ، زين لوحته في منتصفها بقبة ذهبية ، مع وجود الشناشيل العراقية على جانبي اللوحة،
وقد اثث لوحته بالنخلة والمنارة واشخاص العراقيين الذين يرتدون الزي العراقي ، و
استخدم الفنان في لوحته الوانا فاتحة ،وهذا كله منح اللوحة بعدا عراقيا جماليا.
وهناك فنانون استخدموا القبة ليس كقيمة انشائية معمارية ، انما كقيمة
فنية جمالية رامزة لما تحوية من قيمة روحية وشعبية.
الفنان عمر احمد الشهابي استخدم القبة في العديد من لوحاته التشكيلية
بهذا الرمز الجمالي،والسياحي ايضا ، حيث رسمها كشكل رامز فيه بعض ملامح القبة ، مع
الوان غير الوانها المعروفة ، يعلو كل قبة هلال ، مع الكثير من الرموز الشعبية
التي اثث فيها لوحاته ،فكانت هناك الابواب والشبابيك وهي عبارة عن خطوط خارجية
تعلوها نصف قوس ، لترمز الى الابواب التراثية وزخرفتها .
كذلك استعملها كوحدة تشكيلية سياحية مع الكثير من الرموز التراثية
والاثارية ، كأسد بابل ، والملكة شبعاد ، والاحرف المسمارية السومرية .
اما الفنان التشكيلي سامي الربيعي فقد استخدمها كوحدة تشكيلية جمالية
،وقد ملأ فضاءها الداخلي بوحدات زخرفية وحروفية ، مع تأثيث اللوحة بأشكال تراثية،
مثل الابواب والشبابيك ذات الاطار العلوي القوسي ، وهي ابواب وشبابيك تراثية اراد
منها الفنان كزملائه ان يربطوا بين الماضي والحاضر ، كبنية مستمرة .
اما الفنان عبد الغني الجوالي فقد استخدم القبة كوحدة جمالية زخرفية
غي واحدة من لوحاته ، اذ قام بزخرفة محيطها الخارجي باشكال زخرفية عديدة مع
تلوينها بالوان عديدة ومتنوعة .
وفي لوحة ثانية اثثها بقبة واحدة حمراء في وسطها دائرة بلون اخر، و
استعمل فيها زخارف وايات قرانية عديدة ، فجاءت لوحته بجمالية روحانية عالية .
اذا كان الفنانين العراقيين قد استلهموا القبة كتكوين تشكيلي رمز الى
الكثير من المعاني الروحية والجمالية ،فالامر نفسه فعله النحات اسماعيل فتاح الترك
عند تصميمه لنصب الشهيد ، وهذا امر يختلف عن التشكيل ، حيث استلهم القبة العباسية
.
واذا كان نصب الشهيد يخرج من كونه رسما تشكيليا ، الا انه دخل في الكثير
من اللوحات كتكوين تشكيلي رامز .
استلهم الفنان الترك نصفي القبة ، لا كما قيل على انها نصفي بيضة
مشطورة( كما اخبرني احد الفنانين ، وادعى انه صاحب الفكرة الاساسية)،ولكني كمتلقي
لهذا النصب ارى امامي قبة مشطورة الى نصفين غير متساويين ، وما زالت تعبق بالجو الروحي
للشهيد الذي لف بالعلم العراقي ووضع بين النصفين لما في ذلك من قيمة روحية ، حيث
تصعد روحه عاليا الى السماء.
وهنا كان استلهام الفنان الترك للقبة كتكوين روحي رامز للشهيد الذي
بذل نفسه في سبيل قضية مهمة .
الفنانة وداد الاورفلي استلهمت القبة كتكوين معماري له ابعاده
الحضارية الرمزية والدينية والحياتية ، وبكل تشكيلاتها والوانها لتمنح لوحتها
البعد الانشائي الروحي من خلال الطابع الديني الاسلامي الذي اوحته اللوحة وتعدد
القباب التي فيها وتوزيعها الفني ذو القيمة الجمالية الروحية ، مع وجود النخل
والماء وهو من الطبيعة العراقية، فمنح لوحتها الانتساب العراقي الاصيل.
للوحاتها التشكيلية المنمنمة بالالوان والمؤثثة بالطابع العراقي
التراثي وبالمنائر والقباب والمياه والسماء الزرقاء الصافية طابع خاص بها ، حيث
تعكس هذه الرؤيا رغبة الفنانة الاورفلي بتجسيد مدينتها الجميلة .
ان زيارتها لمدن الاندلس عام 1973، ألهمها هذا الاسلوب في الرسم
التعبيري الذي جمعت فيه القباب والمآذن والتراثيات العراقية الاصيلة ، ولونتها
بالوان التركواز والازرق والذهبي وزخرفتها لتضفي عليها اضافة لما تمنحه من اجوء
روحية ، جمالية اخاذة وباهرة.
تضع الفنانة الاورفلي موضوعها الانشائي على اللوحة داخل اطار زخرفي
منمنم من النخيل والقباب والمنارات والاهلة.
في اغلب لوحاتها نرى موضوعها الانشائي منعكسا على المياه ، او انه
مرسوم على جزيرة وسط هذه المياه .
ان استخدام الفنانة لهذه المفردات من حياتنا اليومية ، كالمياه ، التي
يذكر القرآن انها اصل كل شيء ، والنخلة التي يؤكد النبي محمد على انها عمتنا ،
والاشجار التي منها بيخرج غداءنا وملابسنا ، كل ذلك لترمز الى امتداد الحاضر
بالماضي ، والى تجذرنا في الوجود ، والى ديمومة الحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق