الاثنين، 27 يونيو 2016

قراءة في قصائد عربية




نشرت صحيفة ( العراق اليوم ) على صفحتها الثقافية ( بصمة مثقف ) الجزء الاول من دراستي ( قراءة في قصائد عربية قديمة - الاعشى وتعالق الحب - الحلقة الاولى ) ... شكرا لمحرر الصفحة الشاعر تحسين عباس :
قراءات في قصائد عربية قديمة
الحلقة الاولى
داود سلمان الشويلي
(( ابيت ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم ))
هذا ما قاله الشاعر العربي العظيم ( المتنبي ) عن شعره ... ويمكن ان يقال عن الكثير من قصائد الشعراء العرب .
ان سهر ( الخلق ) واختصامهم في شعر المتنبي ، يمكن ان يتعداه الى شعر غيره ، لا للاختصام فيه ، او لنقده ، او معرفة محموده من مذمومه ، وانما لما تطرحه بعض القصائد من ( ظلال ) تجعل هذا (الخلق ) في ذلك الزمان ، وفي أي زمان يحتكم الى نفسه اوالى غيره لـ ( جلاء ) تلك (الظلال ) ، و( الظلال ) هذه يمكن ان نطلق عليها مصطلح ( ميتا القصيدة ) او ما بعد القصيدة .
في هذه السطور سنتناول بعض ما قاله ( بعض )الشعراء في قصائد تترك عندالمتلقي ( ظلالا ) تجعله ( يسهر جراها ) ولا اقول ( يختصم ) معها او مع الاخرين ، بل هو يختصم مع نفسه وهو يسلط الاضواء ليجلو ما في القصيدة من امور خفية .
*** ***
1- الاعشى وتعالق الحب:
كيف يكون حب المحبين ، هل هو حب ( توازي ) ام حب ( توالي ) ؟ وعذرا من علم الكهرباء ... هل هو بالاصالة ، ام هو حب بالانابة ؟ وعذرا من رجال القانون ... هل هو حب من طرف واحد ام هو حب الطرف الى الطرف الاخر انجذابا كانجذاب قطبي المغناطيس ؟ وعذرا من علم المغناطيسية .
اسئلة كثيرة تقف امام قاريء معلقة ( الاعشى ميمون ) التي يبدأها بقوله :
ودع هريرة ان الركب مرتحل وهل تطيق وداعا ايها الرجل
ان قاريء هذا البيت وقلبه ممتليء بالحب ، سيجيب – حتما – بالنفي . اذ كيف يطيق – مثل هذا المحب او ذاك – وداع حبيبته ؟ الا ان القصيدة تقول غير ذلك ، ذلك لان الراوي ( = الشاعر = المحب ) لم يكن حبه كاملا ، ولم تكن له حبيبة تبادله الحب ، وانما كان حبه بالنيابة ، أي لم يكن حبا بالاصالة ، ولكي لا نجني على احد شعراء المعلقات العشر ( او السبع ) بعد اكثر من 1400 عاما مضت ، نرجيء الاجابة القاطعة بعد قراءتنا لبعض ابيات معلقة ( الاعشى ) ، والتي يصف فيها تعلق قلبه بمن (يحب ) :
علقتها عرضا وعلقت رجلا غيري وعلق اخرى غيرها الرجل
وعـلقته فـتاة مــــا يحاولها ومن بني عـمها ميت بــها وهــل
وعلقتني اخيرى ما تلائمني فاجتمع الحب حب كــله تبــــــل
قبل ان نقول شيئا ، نذكر ان ( ام جليد ) هي نفسها (( هريرة )) التي يزعم الشاعر انه يحبها ، فودعها في بداية معلقته ، فهل كانت حقا حبيبته ، أي هل كانت تبادله الحب ، واي حب هذا ؟
ارى ان خير اجابه على هذا التساؤل ، هو ان نضع مخططا لهذا الحب المتداخل ، المتوالي ، المتوازي ... الخ .
اين موقع الشاعر ( المحب ) من هريرة التي يحبها ويصد عن ( الأ ُخيرى ) فيما (هريرة ) لاتحبه ، وانما تحب رجلا آخر ؟
ان الرجل الاخر الذي تحبه ( هريرة ) كان هو الاخر غير معني بحبها ، وانما يحب فتاة ( آخرى ) وبنفس الوقت ، كانت هناك ( فتاة ) تحبه دون ان يعير أهمية لحبها .. اما تلك( الفتاة ) فقد تعلق قلب ابن عمها بحبها دون ان تبادله هذا الحب .
اذا ، من هو المعشوق بين كل هؤلاء ؟ هل هي هريرة ، ام الشاعر ؟
ان الترسيمة السابقة تبين لنا انه لا الشاعر ولا هريرة هما المعشوقان بين كل هؤلاء ، وانما هو الرجل الذي لا نعرف عنه شيئا ، ان نصيبه من الحب ( المشتبك ) هذا نقطتين ، فهريرة تحبه ، والفتاة الاخرى ، التي تعلق قلبها به .
اما هريرة ، والشاعر نفسه ، فقد حصل كل واحد منهما على نقطة واحدة .
ان الاعشى قد بين في قصيدته هذه انواعا من علاقات الحب ..
النوع الاول هو حب الرجل للمرأة ، مثل حب الشاعر لهريرة وحب الرجل للــ ( اخرى ) وحب ابن العم للفتاة .
والنوع الثاني حب الــــ ( اخيرى ) للشاعر ، وحب هريرة للرجل ، وحب الفتاة للرجل .
اما النوع الثالث ، فهو علاقة الحب الموهوم ، وهو حب الرجل لــ ( الاخرى ) التي لا تعرف عن هذا الحب شيئا ، فظلت بعيدة عن جميع هذا العلاقات . لكنها تبقى في النهاية الفائزة الاولى في شبكة علاقات الحب هذه ، لان جميع ( سيول ) الحب التي تصب في مجرى ( الرجل ) تعطيه زخماً قوياً لكي يحب هذه الــ ( اخرى ) ،اما الخاسر الوحيد في كل هذا هو ابن عم الفتاة ذلك الــ ( ميت بها وهل ) اذ انه اعطى من حبه لأبنة عمه دون ان تعطيه هي او أي فتاة أخرى شيئاً من الحب .
فاي علاقات حب هذه ؟ أي مكسب سيجنيه القلب ، أو الروح من كل هذه العلاقات ؟
هل كان لوم الشاعر لـــ ( هريرة ) عندما صدته لوما ( في مكانه ) كما يقال ؟
ترى هذه السطور ، ان الإجابة هي بالنفي ، لان هريرة ليست الفتاة الوحيدة من بين فتيات هذه الشبكة التي صدت من تحب . اذ ان الجميع كانوا يصدون ( بوعي او بدونه) من يحب .. وتبقى هذه ( الأخرى ) مرفوعة الرأس ، وأنفها شامخ بتكبر وإصرار .. وليذهب الجميع إلى الجحيم .
*** ***
ليست خارج السياق :
واستطرادا مع حديث التعالق ، يذكر الجاحظ في ( المحاسن والاضداد ) : (( قيل : ولما استوثق امر العراق لعبد الله بن الزبير ، وجه مصعب اليه وفداً ، فلما قدموا عليه ، قال لهم : وددت ان لي بكل خمسة منكم رجلاً من اهل الشام . فقال رجل من اهل العراق : يا امير المؤمنين علقناك ، وعلقت بأهل الشام ، وعلق اهل الشام بآل مروان ، فما اعرف لنا مثلاً الا قول الاعشى :
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً غيري وعلق اخرى غيرها الرجل
فما وجدنا جواباً احسن من هذا . )) (1) .
وذكروا ان الاخطل كانت عنده امرأة ، وكان بها معجباً ، فطلقها وتزوج بمطلقة رجل من بني تغلب ، وكانت بالتغلبي معجبة فبينا هي ذات يوم جالسة مع الاخطل ، اذ ذكرت زوجها الاول ، فتنفست الصعداء ، ثم ذرفت دموعها ، فعرف الاخطل ما بها ، فذكر امرأته الاولى ، وانشأ يقول : ( 2 )
كــلانا عـــلى وجــــد يبيت كـــــأنما بجنبيه من مس الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح وزوجها عــلى الطلة الاولـى كذاك ينوح
اما ليلى الاخيلية ، فأنها تقول لصاحبها توبة الحميري :
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بــها فليس الـــــيها ما حييت سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي ان نخونه وانت لاخرى صاحب وخـــليل ( 3 )
ويوجز المنخل اليشكري هذه العلاقة كما هي بينه وبين محبوبته او بين بعيره وناقتها قائلاً :
واحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري
الا ان عروة بن حزام العذري ، يجد تعارضا ً بين وجهته وبين وجهة ناقته لتعارض مكان محبوب كل واحد منهما . فبينما كان هو يغذ راحلته بأتجاه محبوبته ، يجد ان ( هوى) راحلته قد ابتعد كلما تقدمت به هذه الراحلة الى محبوبته .
يقول :
هـوى ناقتي خلفي وقدّامي الهوى وانــــــــي واياها لمختلفان
فأن تحملي شوقي وشوقك تفدحي وما بك بالحمل الثقيل يدان (4 )
الهوامش :
1 – موجز المحاسن والاضداد – 27 .
2 – المصدر السابق – 136 .
3 – الشعر والشعراء في العصر العباسي – 455 .
4 – النظام في شرح شعر المتنبي وابي تمام –