الاثنين، 27 يونيو 2016

(قصيدة الحطيئة " طاوي ثلاثا" ... ومفاصل التناص مع قصة اسحاق الذبيح التوراتية والقرانية) ..






شرت جريدة ( العراق اليوم ) على صفحتها ( بصمة مثقف ) يوم 19 / 8 ( الجريدة مؤرخة بتاريخ 19 / 7 خطأ) دراستي المعنونة
قصيدة الحطيئة " طاوي ثلاثا"
ومفاصل التناص مع قصة اسحاق الذبيح التوراتية والقرانية
قراءة : داود سلمان الشويلي
من الاقوال الشائعة " ان لا جديد تحت الشمس " ، و هذه المقوله ستبقى ترافقنا ونحن نقرأ الادب ، وخاصة الشعر منه ، ذلك لان الافكار ، و الموضوعات التي يتناولها لم تأت من باب الاختراع المجرد ، بل هي من باب الاكتشاف اقرب .
" لا جديد تحت الشمس " هي المرادف المعنوي – من المعنى – للمصطلح الذي صاغته " جوليا كرستيفا " بعدم صفاء جنس الادب بصورة عامة ، وذلك لوجود تبادل في العلاقات بين نص واخر ، وقد اسمته " التناص "، حيث انتقلت سلطة المؤلف على النص في هذا المفهوم الى سلطة النص على ذاته ، لهذا شطب النقد على المؤلف وابقى النص يحاور ذاته ، او بقية النصوص التي قبله ،او التي كانت محايثة له .
والتناص هو مفهوم اجرائي يقوم بتفكيك السنن التي حكمت النصوص ومرجعياتها وتعالقاتها مع نصوص اخرى .
اذن التناص هو تداخل وتقاطع النصوص، فالنص ليس نتاج شخص ما ، يصطلح عليه الشاعر او الكاتب ، بل هو نتاج النص نفسه ، او مجموعة نصوص غير محددة ، حتى ان النص الاول في الانشاء هو نتاج نص غير مكتوب ،ولا هو بالشفوي ، انه نتاج الحياة المتحركة.
امامنا في هذه الدراسة نص شعري للشاعر الحطيئة (ت: 45هـ)،يمكن ان نطلق عليه اسم ( طاوي ثلاثا ) . ونص اخر هو نص اسماعيل الذبيح ، بصورة توراتية (سفر التكوين ، الاصحاح 22 )، ، وبصورة قرآنية ( سورة الصافنات ،الايات : 99 – 108 ) ، سندرسهما من خلال هذا المفهوم الاجرائي ، التناص ، لنتعرف على مفاصل هذا التناص بين النص الشعري ، والنصوص الاخرى الدينية ، وتعالقاتها.
***
نص اسحق (اسماعيل) الذبيح التوراتي / القراني:
جاء في سفر التكوين ، الاصحاح 22 :
(( وحدث ان الله امتحن ابراهيم ، فقال له : يا ابراهيم .. خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق ، واذهب به الى ارض المريا ، واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذي اقول لك ، فاخذ ايراهيم حطب المحرقة ووضعه على اسحق ابنه ، واخذ بيده النار والسكين .. ثم مد ابراهيم يده واخذ السكين ليذيح ابنه ، فناداه ملاك الرب من السماء قال ... لا تمد يدك الى الابن ولا تفعل به شيئا ،لاني الان علمت انك خائف من الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عني ، فرفع ابراهيم عينيه ونظر ، واذا كبش وراءه .. فذهب ابراهيم واخذ الكبش واصعده محرقة عوضا عن ابنه )).(1)
والقران يذكر:
(( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِين)).( سورة الصافنات ، الايات : 99 – 108 )
ان النصين يذكران موتيفة فداء البشر ( المتوقف ) في سبيل الاله.
والفداء بالابن ثقافة معروفة عند شعوب العالم في ذلك الوقت ، انتقلت الى التوراة ، والى عرب الجاهلية ، ثم الى "عبد المطلب الهاشمي" الذي اسبغ على هذه القصة الملامح العربية، فجعل من اسماعيل هو الذبيح بدلا من اسحاق في اليهودية، وحاول ان يذبح ابنه " عبد الله " ابو النبي محمد ، لهذا جاء في الموروث ان النبي محمد قال : انا ابن الذبيحين ،يقصد : اسماعيل ، وعبد الله .
اذا كانت المصادر ، وهي مصادر دينية ، روت قصة الذبح كتضحية و فداء للاله ، فان قصة او حادثة قصيدة الحطيئة قد جاء الذبح فيها لاكرام الضيف ، وهذا يمثل عدولا في القصة ، لانها جاءت لتروي حادثة واقعية ، الا انها تأثرت بما كان يدور عن قصة الذبح والفداء بالبشر في الثقافة العامة للمجتمع الذي كان يعيش فيه الشاعر الحطيئة، وفي الديانتين اليهودية والاسلامية ، وكذلك عند شعوب المنطقة .
***
الحطيئة والقصيدة:
هو : (( أبو مُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي المشهور بـ الحطيئة. شاعر مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر. ولد في بني عبس من أَمةٍ اسمها (الضراء) دعِيًّا لا يُعرفُ له نسب فشبّ محروما مظلوما، لا يجد مددا من أهله ولا سندا من قومه فاضطر إلى قرض الشعر يجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينقم به لنفسه من بيئةٍ ظلمته، ولعل هذا هو السبب في أنه اشتد في هجاء الناس، ولم يكن يسلم أحد من لسانه فقد هجا أمّه وأباه حتى إنّه هجا نفسه.)) ( المصدر:ويكيبيديا) وتذكر المصادر انه ارتد في اواخر حياته.
وهو صاحب القصيدة التي هجا بها الزبرقان ، اذ كان الزبرقان بن بدر التميمي سيد قومه عَمِل للنَبي ، وأبي بكر وعمر ، وقد أشتكى لعمر لما هجاه الحطيئة. فقال له عمر وما قال لك: قال: قال لي:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها واقعد فانك انت الطاعم الكاسي
وعندما سجنه عمر قال له شعرا:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبَهم في قعر مُظلمة فاغفر، عليك سلام الله يا عمر
إمامُ الذي مـن بـعد صاحـبه ألقى إليك مقاليدَ النُّهيوالامر
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثرُ
فامنن على صبيةٍ بالرَّمْلِ مسكنُهم بين الأباطح يغشاهم بها القدرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينَهُمُ من عَرْضِ واديةٍ يعمى بها الخبرُ
والحطيئة يصنفه البعض من الدارسين على انه رائد في الشعر القصصي .
القصيدة:
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى بحقك لا تحرمه تالليلة اللحما
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ أياأَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
لا نريد ان نتحدث عن الصور الفنية التي زخرت بها القصيدة وهي تنهج نهج من سبقها من قصائد عربية جاهلية ، والتي استمدها من بيئته ومن مخزونه الثقافي الذي نحن معنين به في هذه الدراسة ، ولكن نقول : ان الاصحاح 22 من سفر التكوين التوراتي ، وسورة الصافنات القرانية في الايات ( 99 – 108 ) يقصان علينا قصة ابراهيم عندما راى في المنام انه يذبح ابنه ( النص القراني ) ، فاعلم ابنه ذلك ، فقبل الابن " اسحاق ،اسماعيل " ان يذبحه اباه بأمر من الاله، وعندما تهيئا الى الذبح ، فداه الاله " بذبح عظيم " في القران ،و " كبش " في التوراة.
ان ذبح اسحاق او اسماعيل جاء لاسباب الاهية ، اذ انه امتحان الهي لصبر ابراهيم وخوفه من الاله ، ونجاحه في هذا الامتحان .
اما في القصيدة ، فان الواقع يتحرك امام اعيننا ، انه واقع ماثل للعيان ، متحقق ، وهو البؤس والفقر التي اصابت الشاعر واهله ، فوصل بهم الحال الى شد بطونهم ، وهذا البؤس عند ابن الصحراء المضياف يؤدي في الكثير من الاحيان الى الذبح في ذاك المجتمع الصحراوي الذي يقر الضيف، حيث يرى ان اكرام الضيف هو الغاية المنشودة في هذه الحياة .
إنَّها قصة قصيدة الحطيئة هي قصة أرضية من الواقع المادي المعاش ، قد تكون متخيلة ، الا انها محتملة الحدوث ، ولا يرفضها العقل والمنطق .
اما القصة الدينية فتاخذ اسلوبا متخيلا ، انه ابن الواقع ، الا انه واقعا متخيلا ، يعج بالغيبيات .
تقول القصيدة : ان شخصا ما ، وزوجه واولاده لم يصيبوا طعاما قط ، يسكنون في مكان من الصحراء ،وبينما هم كذلك واذا بضيف ينزل عليهم ، فاحتار الاب كيف سيطعمه وهو الفقير ، فيأتيه ابنه بفكرة ان يذبحه ويقدمه طعاما لضيفه ، وهذا الفعل هو افضل من ان تذهب سيرته بين الناس بانه لم يقر الضيف ، وبينما هم في تلك الحيرة بين الذبح والضيف اذا بـ ( عانة = حمار الوحش ) تروي عطشها ، فصادها ، وذبحها ،واطعم ضيفه ، وعائلته.
يتمفصل ما جاء في الاصحاح 22 ، والايات القرانية ، مع القصيدة في عدة مفاصل ، على اعتبار ان القصيدة سبقت الايات القرانية لانها – اي القصيدة – لم تذكر من الاسلام اي امر ، كالتوحيد ، ونبوة محمد ، وامور اخرى تتناول الفقر والحاجة ، وجاءت بعد ذكر الذبح في التوراة ، ولما كانت كذلك فهي قصيدة وقعت حوادثها كما تروى ، او ان متخيل الشاعر قد اضاف لها من موروثه الشعبي ومن ثقافة مجتمعه الذي كان جزء منها متأثرا بالثقافة اليهودية ، التوراتية ، عن ذبح ابراهيم لابنه اسحاق ، قبل نزول الايات القرانية ، اي قبل البعثة .
او، ان الشاعر كتب قصيدته هذه بعد البعثة ، فتضافرت الثقافتين ( التوراتية ) و ( القرانية ) في متخيل الشاعر ، وانتجت قصيدته هذه.
ان الشاعر وهو يكتب قصيدته ، يعيد كتابة قصة اسحاق الذبيح التوراتية، وقصة اسماعيل القرانية ، بتغيير سبب هذا الذبح ، حيث حرر القصة / الاسطورة التوراتية ( والقرانية ) من البعد السماوي ، واعادها الى ارض الواقع المتحرك.
فالنص الشعري " طاوي ثلاثا " يتناص مع الاسطور / القصة ، التوراتية / القرانية في التفكير بالذبح ، الا انه يختلف عنه في الاسباب التي تدعو اليه ، وهنا جودة الفكرة عند النص الشعري.
ان التفكير في الذبح في القصيدة، وفي النصين التوراتي والقراني يفضي الى حلين هما : اما الذبح ، او عدمه .
ان عدم الذبح هو ان يكون هناك بديلا عن المذبوح ، وفي النصين الدينيين يرسل الاله الى ابراهيم ذبح عظيم " كبش " ، اما في القصيدة فالبديل هو اصطياد حمار الوحش " عانة " وذبحها ، واطعام الضيف.
ان الية التفكير في النصوص الدينية هي غير الية التفكير في النص الادبي ، واذا كانت النصوص الدينية تفكر في انها منزلة من الله ، فان الية تفكير القصيدة هي الية تفكير الواقع المتحرك الذي انتجها.
وهكذا نخلص الى ان النص الشعري يكون قريبا من النص المتناص معه ، وبعيدا عنه في الوقت نفسه .
بعيد عن الاسباب الداعية الى الذبح في النصوص الثلاث، وقريب في الفكرة والانشاء.
النصان الدينيان بوجهيه التوراتي والقراني ، وكذلك النص الشعري ،يفكران في الذبح ، الديني بامر الهي لمعرفة طاعة ابراهيم لامر الله، والشعري ، مساعدة الابن لابيه ( طاعة )، كمخرج للازمة التي وجد فيها الاب نفسه ، وهو ( العوز ) .
والنصان كذلك يتمفصلان في عدم الذبح ، مع تغير الاسباب المؤدية الى ذلك .
اذا كان النصان الدينيان يعدلان عن الذبح بسبب كون الاله قد ارسل فداء عظيما بدلا من الابن ، فان النص الشعري جعل فداء الابن يتم بواسطة ذبح حمار الوحش ( عانة ) جاءت لتروي ظمأها ، فيصيدها الاب .
***
الهامش :
(1) وكذلك ما فعله " يفتاح " بذبح وحيدته ابنته كما جاء في التوراة ، سفر القضاة ، الاصحاح 11 .
وفي المسيحية كذلك ، حيث التضحية بالبشر ، فكان ان صلب المسيح لفداء الانسانية (( فهو قد مات ،مات من اجل خطايانا )) ( رسالة بولس الاولى الى كونثوس ) .
وكذلك ما كان يعتقده بعض متطرفي الشيعة عن الحسين ومقتله في كربلاء ، في ان مقتله هو فداء عن اخطاء الشيعة .
(قصيدة الحطيئة " طاوي ثلاثا" ... ومفاصل التناص مع قصة اسحاق الذبيح التوراتية والقرانية) ... شكرا لمحرر الصفحة الشاعر تحسين عباس :

ليست هناك تعليقات: