الثلاثاء، 28 يونيو 2016

النسبية في الشعر العربي ... قصيدة كعب بن زهير انموذجا





النسبية في الشعر العربي ... قصيدة كعب بن زهير انموذجا
قراءة : داود سلمان الشويلي
مر الشعر العربي بمراحل كان فيها لا يرتكن الى اليقينيات ، إذ ان مثل هذه اليقينيات تخرجه من جادة الشعر لتضعه في جادة النثر العادي الذي يقول مباشرة ، و يصف الحالة من الخارج ولا يغزوها في الداخل ، الشعر العربي قال كلمته بعيدا عن كل يقين ، وقريبا من الشك الذي يفضي الى ما هو نسبي .
و لم تكن النظرية النسبية للاشياء ،او العلاقة النسبية للاشياء ، " منتبها " اليها قبل انشتاين " عام 1905 م " ، وخاصة بما يتعلق بالزمن والحركة ، اذ كان نظر الناس ( علماء وعامة ) الى الزمن العام على انه عبارة عن تتابع في الوقت نتيجة لحركة الارض حول نفسها بالنسبة لظاهرتي الليل والنهار ، او حركة الارض حول الشمس بالنسبة لظاهرة الفصول الاربعة ، اما بالنسبة الى زمنهم الخاص – اي نظرة الشخص الى زمنه – فقد كانت بصورة متوالية عددية تبدأ من الولادة وتنتهي بالموت ، اما الحركة بالنسبة لهم هي الانتقال في المكان .
ان علاقة الانتقال في المكان بالزمان ، او ما يمكن ان نسميه بالسرعة ، فقد كان الناس – على مستوى العامة على اقل تقدير- منتبهين اليها في رحلاتهم دون ان يشغلوا تفكيرهم بحسابها ، الا ان الشعراء – ويمكن عدهم من مثقفي اي مجتمع دون ان نطلق عليهم صفة العلماء – قد كانوا اكثر انتباها من بقية الناس الى هذه الموضوعات ، وهذا ما ستناقشه هذه الدراسة .
ان النظرتين ، العلمية والعامة ، تنطلقان من مبدأ اساسي هو : ان الزمن يسير بخط مستقيم دون ان تكون هناك اية علاقة بين الازمان العديدة بعدد البشر ، لان كل العلاقات التأثيرية – سلبا او ايجابا – والتي لها علاقة باستمرارية الزمن الخطية لا تغير شيئا من خطية الزمن الخاص لاي شيء في الوجود ، إذ ان التوازي هو الحاكم بينها ، حتى اذا جاء انشتاين ، قلبت كل الموازين على المستوى العام عند الناس ، او على مستوى العلم ، اذ نبه الى ان العلاقة التي تربط بين الاشياء – على مستوى الزمان والمكان خاصة – لم تكن علاقة مطلقة ، بل هي علاقة نسبية .
هذه النتيجة العامة التي كانت جزء بسيطا من نظريتي انشتاين النسبية ( الخاصة عام 1905 ، والعامة عام 1915 ) نبهت الناس كثيرا الى هذه العلاقة والتي كان على اساسها تغير مفهوم الزمن ، اذ لم يكن مفهوم الزمن كما كان سابقا يسير بخط مستقيم ، اي عبارة عن تتابع خطي في الوقت ، فضلا عن ذلك ، فقد اضافت هذه النظرية فكرة جديدة الى علاقة الزمان بالمكان ، اذ كان النظر اليهما على انهما غير مرتبطين ، وايضا على انهما قيمتان ثابتتان.
ان فكرة ترابط الزمان بالمكان يمكن الحصول عليها من خلال فكرة الحركة – اي من خلال الانتقال من مكان الى اخر – إذ ان هذا الانتقال لم يكن على المستوى المكاني فحسب ، بل هو على المستوى الزماني ايضا ، ولكن كيف للمرء ان يحس بحالة الانتقال هذه ما لم ينظر اليها نسبة الى شيء اخر؟
ومن الامثلة البسيطة التي ترد دائما عند مقدمات الحديث عن النظرية النسبية ، هو مثال الراكب في السيارة ، او القطار ، والذي مفاده : ان الراكب لا يحس بحركة القطار ما لم ينظر الى ما في الخارج ، مثل اعمدة الكهرباء ، او الاشجار ، عندها يرى ان هذه الاعمدة وتلك الاشجار هي التي تتحرك ، فيما القطار ثابت، والصحيح ان القطار والراكب هما اللذان يتحركان.
هذا المثال يؤكد نسبية الحركة ، اي ان الراكب قد قاس حركته – اي حركة القطار – نسبة الى ثبوت الاعمدة والاشجار في مكانهما .
لنتساءل ، هل العرب – وكل البشرية منذ الخلق الاول – ينظرون الى الزمان والمكان ، والعلاقة بينهما " الحركة " ، هذه النظرة التي بسطناها في السطور السابقة ؟
ارى ان الاجابة ستكون بالنفي ، او على اقل تقدير ، انهم كانوا يعون – بدرجة ما – مثل هذا ، الا انهم لم يكونوا قد قعدوه ضمن قواعد ومفاهيم ، مهما كانت درجة دقتها ، اذ لا ننكر ان الانسان كان يعرف انه يقوم بحركة ما عندما ينتقل من مكان الى اخر ، وكذلك يعرف ان انتقاله ذاك يستغرق وقتا ، كما كان واعيا الى ان الزمن يسير دون توقف مهما ثبت الشخص في مكان ما ، او انه لم يكن قد " فلسف " هذا الوعي بسير الزمن دون التنقل بين الامكنة ، ومن هذا الوعي ، كانت ابيات قصيدة كعب بن زهير التي مطلعها : (1)
ما برح الرسم الذي بين حنجر .... وذلفة حتى قبل هل هو نازح
في الابيات ( من 12 الى 18 ) ، حيث يقول كعب بن زهير :
فلما قضينا من منى كل حاجة *** ومسح ركن البيت من هو ماسح
وشدت على حدب المهاري رحالها *** ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
قفلنا على الهوج المراسيل وارتمت *** بهن الصحاري والصماد الصحاصح(2)
اخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وسالت (3 ) بأعناق المطي الأباطح
وطرت إلى قوداء قاد تليلها *** مناكبها واشتد منها الجوانح
كأني كسوت الرحل جونا رباعيا *** تضمنه وادي الرجا فالأفايح
ان ما يعنينا من هذه القصيدة هوالبيت الخامس عشر ، وخاصة عجزه ، لا لانه اصبح مشهورا في كتب الدارسين منذ اكثر من الف عام مما جعله عرضة للتغير والتبدل ، وانما لما له علاقة بنسبية الحركة .
ومن ضمن التبدلات التي حدثت عليه ، تبديل لفظة " سالت " بـ " لفظة " مالت " ، على الرغم من ان حروف اللفظة هي نفسها سوى تبديل الحرف الاول ، الا ان المعنى والدلالة التي تعطيها اللفظة منفردة ، او المعنى والدلالة للبيت الشعري نفسه ، قد تغير على الرغم من ان اللفظتين – على مستوى البيت الشعري – يحملان من معاني المجاز الكثير ، وكذلك القول بالنسبة لحرف الجر في البيت السادس عشر ، اذ لا يستقيم المعنى الا بعد ان نغيره من " الى " الى " على " .
ان هذه الدراسة ترى ان المعنى الاعجازي لهذا البيت لا يستقيم مع لفظة " مالت " وانما مع لفظة " سالت " لاسباب من اهمها ان لفظة " سالت " ذات دلالة لها علاقة بجري الراحلة التي يتحدث عنها البيت الشعري ، منظورا لها نسبة الى عنق الراحلة ، فضلا عن الدلالة التي يعطيها هذا البيت والمتمثلة بالحركة ببعديها الزماني والمكاني .
تخبرنا ابيات القصيدة ، ان الشخصية المركزية فيها ، اي المتحدث – الراوي – الشاعر ، ومن خلال ضمير المتكلم للجماعة ، يقول : انه وبعد ان انتهوا من مناسك الحج ، وبعد ان شُدت – بصيغة البناء للمجهول – الرحال على ظهور المهاري في جو غيبت فيه المراقبة بين الحضور ، وكما قال القران ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) ( الحج – 2 ) خرجوا راكبين على ( الهوج المراسيل = السريعة، والقوداء – طويلة العنق ) التي ( ارتمت ) في الصحاري المستوية الرملية الجرداء ، او الصماء .
تحليل النص
------------------:
لنعود للنص، شطر البيت ، محور الدراسة ، والذي يقول :
-------------------------- ... وسالت باعناق المطي الاباطح
1 – ان راوي النص ( الشاعر ) مفصول عن جو القصيدة وعالمها ، مهما قالت القصيدة من الفاظ– كضمير المتكلم – او افكار ، الا ان القاريء يشعر بانفصال شديد لهذا الراوي وكأنه ينقل ما يراه دون مشاركة في كل ما يجري ، اذ ان نص الدراسة يشي بذلك وكأن الامر لا يعني الراوي بشيء.
2 – توقف اكثر من دارس حول ذلك ، وقد عده اغلبهم من افضل امثلة المجاز الشعري ، كالجرجاني الذي قال عنه : ((انه لم يغرب لان جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الابطح فإن هذا شبه معروف ظاهر ولكن الدقة واللطف في خصوصية افادها بان جعل سال فعلا للاباطح ثم عداه بالباء ثم بأن ادخل الاعناق في البيت فقال باعناق المطي ولم يقل بالمطي ولو قال ( سالت ) المطي في الاباطح لم يكن شيئا وكذلك الغرابة في البيت الاخر ليس في مطلق معنى سال ولكن في تعديته بـ ( على ) والباء ( ... ) ولولا هذه الامور كلها لم يكن هذا الحسن وهذا موضع يدق الكلام فيه وهذه اشياء من هذا الفن )). (4 )
ويقول في مكان اخر : (( وسالت باعناق المطي الاباطح ، غير السيل ، واعلم ان الذي ذكرت لك في المجاز هناك من ان من شأنه ان يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة قائم لك مثله ها هنا )).(5 )
كان ذهن الجرجاني منصبا على التشبيه في هذا البيت ،اي تشبيهه سرعة حركة الراحلة بسرعة سيل الماء في الاباطح ، وله العذر في ذلك ، لان همه هو توضيح اعجاز هذا البيت من خلال المجاز ، واستخدام المعجم اللغوي شعريا .
3 – لقد نبهنا الجرجاني الى نقطة مهمة هي استخدام الشاعر لـ " اعناق المطي " دون ان يقول " المطي " ، ومن هنا يمكن القول ان الشاعر قد قاس حركته نسبة الى ارض الاباطح من خلال حركة اعناق المطي وثبوت الارض وما فيها من تضاريس ، اي كانت عينا الشاعر كالكاميرا السينمائية في لقطة " نظرة الطائر " اذ تصور المشهد من فوق رأس المطي فيظهر من تحت ذلك الراس وعنقه ، والارض وهي تجري عكس جريان العنق ، اي ان عيني الشاعر كانتا هما المراقب لما يحدث ، اي العلاقة بين العنق والارض ، فماذا وجد؟
4 – ان ما رآه الشاعر هو ثبوت الاعناق في مكانها – وكذلك هو – فيما الاباطح هي التي تسيل ( تتحرك بسرعة ) ، وهذه الفكرة تذكرنا براكب القطار الذي يرى اعمدة الكهرباء ، او الاشجار ، متحركة بسرعة .
لقد كان لانثيالات ذاكرة الراوي دور كبير في جلب صورة " الماء " الذي يسيل فيها / او عليها .
5 – ان المحاور المرجعية للراوي هي " اعناق المطي " ، لهذا فان قياس الحركة كان معتمدا عليها ، فكان السكون من حصة الاعناق ، فيما الحركة من حصة الاباطح ، ولو كان هناك شخص اخر له مراجع محورية غير التي عند الراوي – كأن يكون واقفا في / او على الاباطح – فانه سيرى العكس .
مما تقدم يمكن القول ان الشاعر كعب بن زهير قد كان اكثر وعيا من مجايليه – الشعراء والعامة – وكذلك الذين جاؤوا بعده – خاصة الفلاسفة والعلماء – في ان علاقات الاشياء لم تكن علاقة ساكنة ، محايدة ، وانما هي علاقة نسبية ، مما يجعل من هذا الشاعر ، فضلا عن شعراء اخرين كالمتنبي ، وابي العبر ، وابي نواس ، والاعشى ، من الشعراء الحادي الذكاء، ودقيقي الملاحظة للوجود وما يضمه من اشياء ، والعلاقات التي تربط بينها .
الهوامش
---------------:
1 – القرص الليزري " الموسوعة الشعرية " شعر كعب بن زهير .
2 – الهوج : اي طويل وبه تسرع وحمق .
- الهوجاء : الناقة التي كأن بها هوجا من سرعتها.
- المراسيل : جمع مرسال ، وهي السريعة السير .
- الصماد: عقاص القارورة .
- الصحاصح : الصحصح ،و الصحصاح ، و الصحصحان :ما استوى من الارض وجرد ، والجمع الصحاصح.
قوداء : الاقود الطويل العنق والظهر من الابل والناس والدواب ، وفرس اقود: بين القود ، وناقة قوداء . ( راجع تاج العروس ).
3 – اعتمدت في كتابة هذا البيت على المشهور من روايته . انظر دلائل الاعجاز – ج 1 / 72 . والشعر والشعراء – ص 10 الذي يروي البيت هكذا :
اخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وسالت بأعناق المطي الأباطح
اما مؤلف كتاب خزانة الادب – ج1 / 424 ، فيذكره بالنص وينسبه الى كثير عزة .
4 – دلائل الاعجاز – ج1 / 72 .
5 – المصدر نفسه – ج1 / 227 .


ليست هناك تعليقات: