الاثنين، 27 يونيو 2016

(مرايا الشخصيات التأريخية ... قصيدة " ابن الريب " لسعيد الجعفر انموذجا)




نشرت جريدة "الحقيقة" دراستي عن قصيدة الشاعر سعيد الجعقر " ابن الريب " بعنوان (مرايا الشخصيات التأريخية ... قصيدة " ابن الريب " لسعيد الجعفر انموذجا) شكرا للشاعر عدنان الفضلي .
مرايا الشخصيات التأريخية ... قصيدة " ابن الريب " لسعيد الجعفر انموذجا
قراءة : داود سلمان الشويلي
القصيدة :
الى من علمني الحرف الاول
الى كاظم داود
تحارب في اي خندق
القبائل تدعوك
والعيد يقبل
والقمر الحر يسقم
قد  يستحيل هلالا
والطير يرحل
والخريف ارتعاشات
والاب امسى حديثا وذكرى
وامك لا زال اسودها ماثلا
ثياب حداد .. نعاء مديد ودمع
والحسين قريب
حريق وقتل ..
خراب
عليل .. سكينة
وزينب تندب مجدا تصرم
وانت تنوح على اشتراكية أفلت
ولينين  اضحى حديثا وذكرى
تقاتل مثل تأبط شرا.. جيفارا .. جهيمان
جمبع من استوحدوا
لعل الهلال يعود الى كونه
قمرا وصهيل

تؤوب الطيور
يطل الاب الراحل
ولا من سؤال
" اسعد ترى ام سعبد"
***
ان استدعاء الشخصيات التراثية في شعرنا العربي قد بدأ منذ ثلاثينيّات القرن الماضي ، كما تذكر المصادر ، واستمر الى الان ، إذ راح شعراؤنا المبدعون يستحضرون شخصيات اجنبية او عربية ، دينية او اسطورية او تاريخية ، وبواسطة هذا الاستداع ادانوا ما كان ان يدان في ما بروه من اوضاع .
وقد مرت في ذاكرة مبدعينا شخصيات تاريخية تشعر بالانتماء لها ، و لمواقفها ، وتتذكر محاسنها ، و ما انجزت من عمل قدير في حياتها ، فاصبحت مثلا يحتذى به ، ويأتي الشعر ليؤكد ويؤصل ذلك بعدة طرق واساليب ، منها ان تكون كالمرايا نرى انفسنا بها ، لانها تستطيع ان تنفتح على الحاضر برجوعها الى ماضيها ، فيحدث عند ذاك التبادل بين الماضي والحاضر ، وبالعكس . ومن هذا الباب استخدمت الشخصيات هذه في الشعر العربي لتقول امورا واشياء لم يرد الشاعر ذكرها و الافصاح عنها او الاسهاب في شرحها ، لان ما اصبحت عليه تلك الشخصيات من رموز تاريخية تلعب دورا كبيرا في تشكيل النص الشعري الحديث, و أصبح استدعاؤها أمرا يثري المضمون الشعري, ويكشف الكثير من المعاني والدلالات العميقة و الموحية .
 وهكذا يعمل استلهام التراث من خلال الشخصيات العاملة فيه ، فيما تعمل الذاكرة في تشكيل السياق الشعري وبنيته ، وهذا لا يعني نقل هذا التراث كما هو،وإنما استخدامه فنيا ، وتوظيفه رمزيا ، اعتمادا على ما فيه من مضامين بارزة تمنح الرؤية الشعرية نوعا من الشمول ، فتجعلها تتخطى حدود الزمان والمكان, فيتغلغل الحاضر في الماضي ، وبالعكس ، فيزداد اصالة وعراقة .
واذا كان للتراث مستويين كما يذكر الشاعر ادونيس ، وهما مستوى السطح ومستوى الغور ، حيث يمثل السطح الأفكار والمواقف والأشكال ، و الغور يمثل التفجر ، والتطلع ، والتغير والثورة ، وباستخدامهما سوية في القصيدة سيجعلها مكتنزة الايحاءات ، و عميقة الدلالة ، وذات تأثير كبير على المتلقي العارف بحيثيات تلك الشخوص .
في ديوان الشاعر سعيد الجعفر " حرف سقط من اغنية الطير " الصادر من " دار سلمى " -  ستوكهولم – 2005 ، نقرأ في قصيدة " ابن الريب " استخدام الشاعر لشخصيات تاريخية كمرايا يقرأ من خلالها الواقع الاني .
فشخصيات من مثل " ابن الريب " العنوان "، الحسين ، عليل ، سكينة ، زينب ، لينين ، تأبط شرا ، جيفارا ، جهيمان ، قد سحبها الشاعر من مضانها التاريخية الى انساق الشعر .
لقد حفلت القصيدة بشخوص تاريخية عديدة ، وكل شخصية تمثل رمزا للانسانية جمعاء بما قدمته من دور فاعل في الحياة ، والسؤال الذي تطرحه الدراسة هو : هل استفادت القصيدة من هذه الشخصيات التاريخية ، بحيث تقبلها المتلقي على انها قصيدة يمكن ان تمتثل لاشتراطات الشعر  بما تحمله في مضمونها من شخوص يراد منها ان  يفهمها ويفهم دورها وما قدمت من اعمال .
 لقد فهم الشاعر التراث على انه يمتلك طاقة كامنة بما يضمه من شخوص لو وظفها في شعره لاهلت هذا الشعر على ان يعبر عن همومه وقضاياه المصيرية الانية من خلال الايحاء بها .
في عنوان القصيدة ، تقابلنا اول شخصية تاريخية استخدمها الشاعر كعنوان للقصيدة وهي شخصية " ابن الريب "، فلماذا اختار الشاعر هذه الشخصية عنوانا لقصيدته ؟
تذكر المصادر التاريخية عنه ، انه :
((مالك بن الريب التميمي شاعر شجاع فاتكاً لا ينام الليل إلا متوشحاً سيفه ولكنه استغل قوته في قطع الطريق هو وثلاثة من أصدقائه.
مر في يوم عليه سعيد بن عثمان بن عفان  وهو متوجه لإخماد فتنة في تمرّد بأرض خُرسان فأغراه بالجهاد في سبيل الله بدلاّ من قطع الطريق، فاستجاب مالك لنصح سعيد فذهب معه وأبلى بلاءً حسناً وحسنت سيرته وفي عودته بعد الغزو وبينما هو في طريق العودة مرض مرضاً شديداً ، و يقال أنه لسعته أفعى وهو في القيلولة فسرى السم في عروقه وأحس بالموت فقال قصيدة يرثي فيها نفسه ، فصارت قصيدته تعرف ببكائية مالك بن الريب التميمي التي قال فيها :
* ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة       بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضه     وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا                 مزار ولكن الغضا ليس دانيا)).
الشاعر استفاد من هذه الشخصية ليرسم من خلالها التحولات التي مرت باستاذه كاظم داود التي اهديت له القصيدة ، حيث تحول " أبن الريب " من قاطع طريق الى مجاهد في الجيش الاسلامي.
يتساءل الشاعر في قصيدته هذه :
* (تحارب في اي خندق
القبائل تدعوك).
فالشاعر يخاطب شخضية القصيدة ( الشاعر نفسه او استاذه ) بانه امام مفترق طرق ، لان كل القبائل تدعوه لان يكون معها وهو لم يقر له القرار في ذلك .
ان " ابن الريب " مات وحيدا في وادي الغضا، لا من نصير او معين ، وهذا ما تريد ان توصله القصيدة من فكرة ترتبط ارتباطا وثيقا بالموت والحياة والاختيار الصائب للجهة وموقفها في الحياة .
والشخصية التاريخية الثانية التي اختارها الشاعر ، هي شخصية " الحسين " ، والتي هي بالمفهوم الاسلامي شهيدة في سبيل الدين ، والقيم الاسلامية التي زرعها الدين الاسلامي .
شخصية الحسين تحمل ابعادا سياسية و اخلاقية ، فقد ماتت في سبيل الثورة والحرية وقيم الاسلام التي ضيعتها او غادرتها الدولة الاموية ، لقد ماتت وحيدة لا ناصر لها ولا معين كإبن الريب الذي كانت القصيدة تحمل اسمه .
ومن الشخصيات التي يستدعيها اسم الحسين ، وتحضر عندما يذكر ، هي شخصية  العليل ( ابنه )، وسكينة ( ابنته ) وزيب ( اخته ) ، هذه الشخصيات ترد معه عندما تذكر واقعة  كربلاء التي قتل فيها وحيدا :
* (والحسين قريب
حريق وقتل ..
خراب
عليل .. سكينة
وزينب تندب مجدا تصرم).
الحسين قد مات وحيدا ، اذ لا ناصر ولا معين له كما في يوم الطف .
اما شخصيات من مثل " تأبط شرا" الشاعر الجاهلي ، و الصعلوك الذي قتل لوحدة من قبل غلام ، وهو الفارس العداء، حيث يقول في قصيدة له :
يمشي على الأين والحيات محتفيا            نفسي فداؤك من سار على ساق
إني اذا خلة ضنت بنائلها                    وأمسكت بضعيف الوصل أحذاق
نجوت منها نجائي من بجيلة،إذ               ألقيت،ليلة خبت الرهط أوراقي
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم               بالعيكتين لدى معدى ابن براق
كأنما حثحثوا حصا قوادمه                        أو أم خشف،بذي شث وطباق
لا شيء أسرع مني،ليس ذا عذر                  وذا جناح،بجنب الريد خفاق
هذا الصعلوك الشجاع والعداء قتل وحيدا لا ناصر له ولا معين من قبل غلاف صغير ، يا للمفارقة الكبيرة .
و " جيفارا" الثوري الارجنتيني / الكوبي الذي قتلته المخابرات الامريكية ، فقد مات وحيدا ، إذ لا ناصر ولا معين له ، بعد ان قاد ثورة وله اتباع .
 و "جهيمان العتيبي " الثوري – حسب مفهومه الاسلامي - الذي اعدم هو الاخر وحيدا بعد احداث مكة ، فقد مات وحيدا ايضا ، لا ناصر له ولا معين .
اما لينين فقد قتل مرتين ، مرة عندما قتل بالرصاص من قبل احد الروس  ومات ( 1924 ) ، ومرة عندما ماتت تجربته الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفيتي في زمن غورباتشوف ، لقد اضحى لينين عند هذا السقوط عبارة عن " حديث وذكرى " تتداولها الالسنة فقط.
يقول الشاعر :
* وانت تنوح على اشتراكية أفلت
ولينين  اضحى حديثا وذكرى.
كل الثوريين الذين ذكرهم الجعفر في قصيدته " ابن الريب " ماتوا وحيدين لا ناصر لهم ولا معين ، ان كان ذلك من بعض الافراد ، او من الشعب ، الذين ظنوا انهم يقاتلون لاعلاء كلمة الشعب نفسه .
لقد ضمت قصيدة " ابن الريب " شخصيات تاريخية استلهمت كمرايا صقيلة من قبل الشاعر لكي نرى نحن المتلقين حقيقة وواقع الشخصية التي اراد الشاعر تقديمها لنا ، دون ان يذكر ملامحها ، او فعلها ، او ممارستها ، انه  المح لكل ذلك من خلال تلك الشخصيات التاريخية التي انعكست فيها.


ليست هناك تعليقات: