نشرت مجلة ( رأينا ) في عددها الخامس دراستي
عن الدين ، هل هو ثقافة ام تراث ؟ تحت عنوان (الاقانيم الثلاثة : الدين ... ثقافة
ام تراث ) شكرا للزميل شوقي كريم.
الاقانيم الثلاثة : الدين ... ثقافة ام تراث
داود سلمان الشويلي
مقدمة:
بعيدا عن نعي نيتشة لله بمقولته الشهيرة ( موت الله )، وبعيدا عن عد الانسان كسيد على
الطبيعة ، ومالكا لها ، كما ذهب الى ذلك ديكارت ، تثار في وقتنا الحاضر اسئلة
كثيرة عن الدين ، ان كان الدين بمفهومه الاساس ، كنص قرآني ، او بما اضيف له من
فكر بشري ، اصبح مع تقادم الزمن هو الدين الاساس ، فاحيط بهالة القدسية التي تجعله
لا ينفذ اليه شيء ما من امور الدنيا الفانية ، ومن اهم هذه الاسئلة السؤال الثقافي
الذي مفاده : هل الدين ثقافة ام تراث ؟
قبل كل شيء علينا ان نعرف ما المقصود بالدين
، وبالثقافة ، وبالتراث ، لكي نكون على بينه تامة من حديثنا عنهم ، وكما ان
الاقنوم هو كائن حقيقي له شخصيته ، فان المصطلحات الثلاثة يمكن ان نطلق عليها
تسمية اقانيم ، وهذه الاقانيم الثلاثة
كما الاقانيم الثلاثة في المسيحية ، تقع ضمن اهتمام الدراسات الانثروبولوجية ،
الذي يدرس الانسان من حيث هو كائنٌ طبيعي
، واجتماعي ، وحضاري.
الدين:
الدين في اللغة ، هو : من دان ، اي خضع ،
وطاع ،وانقاد ، كما يذهب ابن منظور ، والكثير من معاجم اللغة العربية .
وفي الاصطلاح ، هو : الايمان
بخالق للكون وما فيه ، وكل ما يصدر عنه ( قرآن في الثقافة الاسلامية ) ، ويوصل كل
ما يريد ايصاله الى الناس ( عباده ) من خلال الانبياء والرسل ، أي هو الايمان بما
هو غيبي ، غير عياني ، وغير حسي من امور.
يبقى مفهوم الدين ملتبسا ، ذلك لانه يشمل الدين الاساس ، أي التعاليم
الموحى بها ، أي كنص قرآني ، وايضا ما هو فكر ديني من وضع البشر،أي فكر انساني بحت
، فالدين هو مجموعة النصوص ، والتعاليم ، والقيم ،
والاخلاق ، وهو كذلك طقوس اجتماعية ، وتقاليد ، وأفعال يمارسها الناس ، أي
الممارسات المادية والممارسات المعنوية ، ولكنه في مجتمعاتنا
يختلط الدين بما هو فكر ديني يأتي بعد التأسيس او الانبعاث .
وإذا كان الفكر الديني هو المعرفة البشرية
بالدين ، فانه يصبح عند ذاك عبارة عن ثقافة ، اي انه منتج ثقافي ، فتصبح الخبرة الدينية عند ذاك خبرة
ثقافية، وفي نفس الوقت هو تراث ، يتوارثه الخلف عن السلف بتقادم الزمن .
التراث :
التراث في اللغة هو: من مادة (ورث) التي تعني "ما يتركه الإنسان
لمن بعده"، اي هو المنقول من جيل الى اخر ، من العادات ، والتقاليد ،
والعلوم ، والآداب ، والفنون، ونحوها ، اي ما تركه السلف للخلف ، و هو النشاط الإنساني في مجتمع ما عبر التاريخ .
وفي الاصطلاح، هو : حصيلة المعارف ، والعلوم ، والعادات ، والفنون ، والآداب والمنجزات
المادية .
اذن هو : التراث الاجتماعي، والتراث المادي ، و
التراث الأدبي، اي التجارب
الإبداعية في كل مجتمع من المجتمعات الحية او الميتة ، أي المجتمعات غير المتطورة
، وغير المتحركة.
لهذا فالتراث هو : مظهر من مظاهر الإبداع الفردي ، و الجماعي في المجتمع ، إذ يقع عليه
الحذف ، والابقاء ، في حالة ان يكون المجتمع الحامل له حيا ، متحركا ، عاقلا ،
مبدعا ، خلاقا ، كمجتمعنا العراقي ، والمجتمعات العربية الاخرى ، وفي النهاية هو
الهوية الثقافية للامم ، والشعوب ، والمجتمعات.
الثقافة :
الثقافة من المفاهيم الديناميكية المتحركة ، و كما في المعاجم ، هي من : ثقف الرمح، تعني سواه
وقومه ، و "ثقف نفسه" اي صار حاذقا ، فطنا.
وفي المصطلح ، هي : الدلالة على الرقي الفكري
،والأدبي ،والاجتماعي ، في سلوك الأفراد
والجماعات.
اذن ، الثقافة تتضمن المعارف ، والعقائد ،
والفنون ، والأخلاق ، والقوانين ، والعادات.
وعلي الثقافة يقف الحفاظ على الهوية ، اذ يدخل فيها الدين ، واللغة ، والتراث ، وكل تلك
الامور.
نصل في النهاية الى ان التراث جامد ، غير متحرك ، لا يمكن تطويره ،
فيما الثقافة حية ، متحركة ، ابداعية ، خلاقة ، يتحكم بها العقل والتفكير.
***
الاقانيم الثلاثة:
الدين والتراث والثقافة هذه الاقانيم الثلاثة
المرسومة في عقل وفكر كل انسان في المعمورة ومنهم الانسان الشرقي ، العربي ،
العراقي الذي يعيش على ارض العراق ، تنتظم على اضلاع مثلث متساوي الساقين ، وعندما
يكون المثلث في وضعه الصحيح ، يرتسم على
احد اضلاعه المتساوية الثقافة ، وعلى الضلع الثاني التراث ، فيما ضلع القاعدة ،
الصغير ، والقصير ، يختص بالدين .
في هذا المثلث نجد ان الاشعاع النازل من ضلع
الثقافة و يتجه الى جهة ضلع القاعدة يحتويها كلها ، و يشتمل عليها .
و
الاشعاع النازل من ضلع التراث الى جهة ضلع القاعدة فأنه يحتويها كلها ، ويشتمل
عليها .
اذن ، فالدين يكون من ضمن مفردات الاثنين ، و
على التساوي ، من التراث ومن الثقافة ، وهذا يعني ان الدين يكون مرة عبارة عن
ثقافة ، واخرى عبارة عن تراث. المرتان
تكونان متحدتين ، اي يكون الدين تراث
وثقافة في الوقت نفسه .
يكون الدين – ومن ضمنه الفكر الديني والخبرة
الدينية - ضمن مفردات التراث ، لانه في الاساس يورث من ضمن ما يورث من العائلة
الصغيرة ، وكذلك العائلة الكبيرة ( المجتمع ) الى حد ما ، منذ ولادة الانسان وحتى
العمر الذي يعي فيه العالم الذي يحيط به ، اي يعي نفسه والاخرين .
فلو ولد الانسان في كنف عائلة تدين بالمسيحية
، او الهندوسية ، مثلا ، فانه سيكون على دين عائلته ، ولا يخرج عن ذلك ابدا.
اذن الدين هو تراث حاله حال مفردات التراث
الاخرى التي تورث وتنتقل من السلف الى الخلف.
وهو ايضا يكون من ضمن مفردات الثقافة ، الا انه
يكون هكذا بعد ان يعي الانسان نفسه ، و ما يحيط به ، اي بعد ان يورث الدين من
العائلة والمجتمع .
صحيح ان سؤال الدين هو سؤال ثقافي ، الا ان
هذا السؤال لم يكن قد طرح ساعة الولادة ، وانما يطرح بعد وعي الانسان لنفسه ولما
يحيط به من اشياء ، وبعد ان يرثه.
هذا السؤال ، وعند بحثه عن اجابة اما ان
يصطدم بالتراث الذي سبق و اخذه الانسان من عائلته ومجتمعه ، فيكون عند ذلك تأكيدا
لما توارثه ، وليس اجابة الهية على سؤال بشري ، لان في ذلك تجاوز على الفكر الديني
الذي بنى له مرتكزات و اسيجة قوية .
و اما ان يبقى بلا اجابة ، لهذا فانه :
- اما ان يبحث عن اجابة له في التراث ، فتكون
عند ذاك الاجابة تأكيدا لما سبق ان انتقل اليه من امور الدين والفكر الديني ، اي
تأكيدا للتراث .
- او ان يخرج عليه ومنه ، فيكون عند ذلك
الانسان ، حسب التعاليم الاسلامية ، انسانا مرتدا ، فيعرض نفسه لحد الردة ، ومن
هذا الباب يكون الدين الذي توارثه قد ظلم الانسان ، وخلص عليه.
لهذا فإن حضور البعد الثقافي ، والبعد
التراثي كذلك في الفكر الديني، وفي الدين اساسا ، ( النص القرآني ) ، هو ظاهرة
موضوعية، لذلك فأن توسيع دائرة التعامل بين هذه الاقانيم الثلاثة (الدين والثقافة
والتراث ) مسألة يقتضيها الواقع الموضوعي الذي نعيشه في مجتمعنا الشرقي ، العربي ،
العراقي بحضارته الممتدة الى الاف السنين .
ولما كان الدين ثقافة ، كما هو تراث ، او من
مفرداتهما ، نجد ان اسئلة الثقافة قد
ازدادت في النصف الثاني من القرن العشرين وفي يومنا هذا ، وهذه الاسئلة التي تطرح
على الدين ، والفكر الديني ، هي ذاتها التي تطرح على التراث الذي أوصل الدين وفكره
الينا ، وقد سبقتنا الى طرح تلك الاسئلة الشعوب الاوربية في العصر الوسيط ، ولم
تكن الاسئلة تلك من جراء الضرورات الدينية ، وانما كانت رد فعل طبيعي ضد ادعاء
الدين ، وفكره البشري ، في امتلاك الحقيقة كلها عن الكون ، والانسان وحركته في المجتمع والتاريخ والحياة
ايضا ، فضلا عن الكشوفات العلمية على كافة الاصعدة التي في اغلبها تتعارض مع الدين
وفكره ، بعد ان اصبح العالم امامنا كالقرية العصرية صغيرا جدا ، بمساعدة تقدم
وتطور وسائل الاتصال والمواصلات .
ان الخطاب الثقافي ، وكذلك الخطاب التراثي ،
يشتمل اساسا على الاسئلة التي تطرح على الدين ، لان الدين ، والفكر الديني الذي
اصبح عند الكثير من المؤمنين مقدسا ، هو من مرتكزات هذين الاقنومين ، الثقافة
والتراث .
الخلاصة:
وتأسيسا على ذلك يمكن القول ان الدين هو
ثقافة تتجد الاسئلة عنه بتجدد الثقافة نفسها ، وليست الثقافة كلها ، لان في ذلك
اغتيال للعقل الانساني ، وجعل الوجود الانساني " ذو بعد واحد " كما ذهب الى ذلك الفيلسوف هربت ماركوس .
الدين في منظوره العام ، يعبر عن رؤية للعالم:
للطبيعة، والوجود، والانسان؛ وايضا يقدم تصوراً تفصيليا للبناء الاجتماع الانساني
من حيث: الاقتصادا، والسياسة، وألاخلاقا، وغيرها من المفردات المعنوية، فهو ثقافة
، لان هذه المفردات التي يفكر بها الدين قد اصبحت ثقافة جمعية للمجتمع ، فتحولت
عند ذلك إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك،وصارت عقائد راسخة لا يمكن نقدها او
تغييرها .
وباعتبار الدين
"تراثا" ، فانه سيحافظ على مرتكزاته، ومفرداته في فكر وعقل الانسان ، لهذا نجده عندما يتعرض المجتمع العربي
والعراقي إلى هزيمة ، أو خطر ،ينهض التراث ويجرد كل أسلحته ليدافع عن نفسه ، تحت
ذريعة الابتعاد عن التقاليد ، والدين ،اي عن ألاصالة المنتهكة !!!
وهكذا يكون الدين من ضمن مفردات التراث و
الثقافة ، حيث يبدأ " تراثا " ، ثم يتحول الى " ثقافة "، حسب
تشكلات وعي الانسان ، ونضجه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق