الاثنين، 27 يونيو 2016

(الاقانيم الثلاثة : الدين ... ثقافة ام تراث )






نشرت مجلة ( رأينا ) في عددها الخامس دراستي عن الدين ، هل هو ثقافة ام تراث ؟ تحت عنوان (الاقانيم الثلاثة : الدين ... ثقافة ام تراث ) شكرا للزميل شوقي كريم.
الاقانيم الثلاثة : الدين ... ثقافة ام تراث
داود سلمان الشويلي
مقدمة:
بعيدا عن نعي نيتشة لله بمقولته الشهيرة  ( موت الله )، وبعيدا عن عد الانسان كسيد على الطبيعة ، ومالكا لها ، كما ذهب الى ذلك ديكارت ، تثار في وقتنا الحاضر اسئلة كثيرة عن الدين ، ان كان الدين بمفهومه الاساس ، كنص قرآني ، او بما اضيف له من فكر بشري ، اصبح مع تقادم الزمن هو الدين الاساس ، فاحيط بهالة القدسية التي تجعله لا ينفذ اليه شيء ما من امور الدنيا الفانية ، ومن اهم هذه الاسئلة السؤال الثقافي الذي مفاده : هل الدين ثقافة ام تراث ؟
قبل كل شيء علينا ان نعرف ما المقصود بالدين ، وبالثقافة ، وبالتراث ، لكي نكون على بينه تامة من حديثنا عنهم ، وكما ان الاقنوم هو كائن حقيقي له شخصيته ، فان المصطلحات الثلاثة يمكن ان نطلق عليها تسمية اقانيم ، وهذه الاقانيم الثلاثة كما الاقانيم الثلاثة في المسيحية ، تقع ضمن اهتمام الدراسات الانثروبولوجية ، الذي يدرس الانسان  من حيث هو كائنٌ طبيعي ، واجتماعي ، وحضاري.
الدين:
الدين في اللغة ، هو : من دان ، اي خضع ، وطاع ،وانقاد ، كما يذهب ابن منظور ، والكثير من معاجم اللغة العربية .
 وفي الاصطلاح ، هو : الايمان بخالق للكون وما فيه ، وكل ما يصدر عنه ( قرآن في الثقافة الاسلامية ) ، ويوصل كل ما يريد ايصاله الى الناس ( عباده ) من خلال الانبياء والرسل ، أي هو الايمان بما هو غيبي ، غير عياني ، وغير حسي من امور.
يبقى مفهوم الدين ملتبسا ، ذلك لانه يشمل الدين الاساس ، أي التعاليم الموحى بها ، أي كنص قرآني ، وايضا ما هو فكر ديني من وضع البشر،أي فكر انساني بحت ،  فالدين هو مجموعة النصوص ، والتعاليم ، والقيم ، والاخلاق ، وهو كذلك طقوس اجتماعية ، وتقاليد ، وأفعال يمارسها الناس ، أي الممارسات المادية والممارسات المعنوية ، ولكنه في مجتمعاتنا يختلط الدين بما هو فكر ديني يأتي بعد التأسيس او الانبعاث .
 وإذا كان الفكر الديني هو المعرفة البشرية بالدين ، فانه يصبح عند ذاك عبارة عن ثقافة ، اي انه منتج  ثقافي ، فتصبح الخبرة الدينية عند ذاك خبرة ثقافية، وفي نفس الوقت هو تراث ، يتوارثه الخلف عن السلف  بتقادم الزمن .
التراث :
التراث في اللغة هو: من مادة (ورث) التي تعني "ما يتركه الإنسان لمن بعده"، اي هو المنقول من جيل الى اخر ، من العادات ، والتقاليد ، والعلوم ، والآداب ، والفنون، ونحوها ، اي ما تركه السلف للخلف ، و هو النشاط الإنساني في مجتمع ما عبر التاريخ .
وفي الاصطلاح، هو : حصيلة المعارف ، والعلوم ، والعادات ، والفنون ، والآداب والمنجزات المادية .
 اذن هو : التراث الاجتماعي، والتراث المادي ، و التراث الأدبي، اي التجارب الإبداعية في كل مجتمع من المجتمعات الحية او الميتة ، أي المجتمعات غير المتطورة ، وغير المتحركة.
لهذا فالتراث هو : مظهر من مظاهر الإبداع الفردي ، و الجماعي في المجتمع ، إذ يقع عليه الحذف ، والابقاء ، في حالة ان يكون المجتمع الحامل له حيا ، متحركا ، عاقلا ، مبدعا ، خلاقا ، كمجتمعنا العراقي ، والمجتمعات العربية الاخرى ، وفي النهاية هو الهوية الثقافية للامم ، والشعوب ، والمجتمعات.
الثقافة :
الثقافة من المفاهيم الديناميكية المتحركة ، و كما في المعاجم ، هي من : ثقف الرمح، تعني سواه وقومه ، و "ثقف نفسه" اي صار حاذقا ، فطنا.
وفي المصطلح ، هي : الدلالة على الرقي الفكري ،والأدبي ،والاجتماعي ، في سلوك  الأفراد والجماعات.
اذن ، الثقافة تتضمن المعارف ، والعقائد ، والفنون ، والأخلاق ، والقوانين ، والعادات.
وعلي الثقافة يقف الحفاظ على الهوية ، اذ يدخل فيها الدين ، واللغة ، والتراث ، وكل تلك الامور.
نصل في النهاية الى ان التراث جامد ، غير متحرك ، لا يمكن تطويره ، فيما الثقافة حية ، متحركة ، ابداعية ، خلاقة ، يتحكم بها العقل والتفكير.
***
الاقانيم الثلاثة:
الدين والتراث والثقافة هذه الاقانيم الثلاثة المرسومة في عقل وفكر كل انسان في المعمورة ومنهم الانسان الشرقي ، العربي ، العراقي الذي يعيش على ارض العراق ، تنتظم على اضلاع مثلث متساوي الساقين ، وعندما يكون المثلث في وضعه الصحيح ،  يرتسم على احد اضلاعه المتساوية الثقافة ، وعلى الضلع الثاني التراث ، فيما ضلع القاعدة ، الصغير ، والقصير ، يختص بالدين .
في هذا المثلث نجد ان الاشعاع النازل من ضلع الثقافة و يتجه الى جهة ضلع القاعدة يحتويها كلها ، و يشتمل عليها .
 و الاشعاع النازل من ضلع التراث الى جهة ضلع القاعدة فأنه يحتويها كلها ، ويشتمل عليها .
اذن ، فالدين يكون من ضمن مفردات الاثنين ، و على التساوي ، من التراث ومن الثقافة ، وهذا يعني ان الدين يكون مرة عبارة عن ثقافة ، واخرى عبارة عن تراث.   المرتان تكونان  متحدتين ، اي يكون الدين تراث وثقافة في الوقت نفسه .
يكون الدين – ومن ضمنه الفكر الديني والخبرة الدينية - ضمن مفردات التراث ، لانه في الاساس يورث من ضمن ما يورث من العائلة الصغيرة ، وكذلك العائلة الكبيرة ( المجتمع ) الى حد ما ، منذ ولادة الانسان وحتى العمر الذي يعي فيه العالم الذي يحيط به ، اي يعي نفسه والاخرين .
فلو ولد الانسان في كنف عائلة تدين بالمسيحية ، او الهندوسية ، مثلا ، فانه سيكون على دين عائلته ، ولا يخرج عن ذلك ابدا.
اذن الدين هو تراث حاله حال مفردات التراث الاخرى التي تورث وتنتقل من السلف الى الخلف.
وهو ايضا يكون من ضمن مفردات الثقافة ، الا انه يكون هكذا بعد ان يعي الانسان نفسه ، و ما يحيط به ، اي بعد ان يورث الدين من العائلة والمجتمع .
صحيح ان سؤال الدين هو سؤال ثقافي ، الا ان هذا السؤال لم يكن قد طرح ساعة الولادة ، وانما يطرح بعد وعي الانسان لنفسه ولما يحيط به من اشياء ، وبعد ان يرثه.
هذا السؤال ، وعند بحثه عن اجابة اما ان يصطدم بالتراث الذي سبق و اخذه الانسان من عائلته ومجتمعه ، فيكون عند ذلك تأكيدا لما توارثه ، وليس اجابة الهية على سؤال بشري ، لان في ذلك تجاوز على الفكر الديني الذي بنى له مرتكزات و اسيجة قوية .
و اما ان يبقى بلا اجابة ، لهذا فانه :
- اما ان يبحث عن اجابة له في التراث ، فتكون عند ذاك الاجابة تأكيدا لما سبق ان انتقل اليه من امور الدين والفكر الديني ، اي تأكيدا للتراث .
- او ان يخرج عليه ومنه ، فيكون عند ذلك الانسان ، حسب التعاليم الاسلامية ، انسانا مرتدا ، فيعرض نفسه لحد الردة ، ومن هذا الباب يكون الدين الذي توارثه قد ظلم الانسان ، وخلص عليه.
لهذا فإن حضور البعد الثقافي ، والبعد التراثي كذلك في الفكر الديني، وفي الدين اساسا ، ( النص القرآني ) ، هو ظاهرة موضوعية، لذلك فأن توسيع دائرة التعامل بين هذه الاقانيم الثلاثة (الدين والثقافة والتراث ) مسألة يقتضيها الواقع الموضوعي الذي نعيشه في مجتمعنا الشرقي ، العربي ، العراقي بحضارته الممتدة الى الاف السنين .
ولما كان الدين ثقافة ، كما هو تراث ، او من مفرداتهما ،  نجد ان اسئلة الثقافة قد ازدادت في النصف الثاني من القرن العشرين وفي يومنا هذا ، وهذه الاسئلة التي تطرح على الدين ، والفكر الديني ، هي ذاتها التي تطرح على التراث الذي أوصل الدين وفكره الينا ، وقد سبقتنا الى طرح تلك الاسئلة الشعوب الاوربية في العصر الوسيط ، ولم تكن الاسئلة تلك من جراء الضرورات الدينية ، وانما كانت رد فعل طبيعي ضد ادعاء الدين ، وفكره البشري ، في امتلاك الحقيقة كلها عن الكون ،  والانسان وحركته في المجتمع والتاريخ والحياة ايضا ، فضلا عن الكشوفات العلمية على كافة الاصعدة التي في اغلبها تتعارض مع الدين وفكره ، بعد ان اصبح العالم امامنا كالقرية العصرية صغيرا جدا ، بمساعدة تقدم وتطور وسائل الاتصال والمواصلات .
ان الخطاب الثقافي ، وكذلك الخطاب التراثي ، يشتمل اساسا على الاسئلة التي تطرح على الدين ، لان الدين ، والفكر الديني الذي اصبح عند الكثير من المؤمنين مقدسا ، هو من مرتكزات هذين الاقنومين ، الثقافة والتراث .
الخلاصة:
وتأسيسا على ذلك يمكن القول ان الدين هو ثقافة تتجد الاسئلة عنه بتجدد الثقافة نفسها ، وليست الثقافة كلها ، لان في ذلك اغتيال للعقل الانساني ، وجعل الوجود الانساني " ذو بعد واحد "  كما ذهب الى ذلك الفيلسوف هربت ماركوس .
الدين في منظوره العام ، يعبر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والانسان؛ وايضا يقدم تصوراً تفصيليا للبناء الاجتماع الانساني من حيث: الاقتصادا، والسياسة، وألاخلاقا، وغيرها من المفردات المعنوية، فهو ثقافة ، لان هذه المفردات التي يفكر بها الدين قد اصبحت ثقافة جمعية للمجتمع ، فتحولت عند ذلك إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك،وصارت عقائد راسخة لا يمكن نقدها او تغييرها .
وباعتبار الدين "تراثا" ، فانه سيحافظ على مرتكزاته، ومفرداته في فكر وعقل الانسان ، لهذا نجده عندما يتعرض المجتمع العربي والعراقي إلى هزيمة ، أو خطر ،ينهض التراث ويجرد كل أسلحته ليدافع عن نفسه ، تحت ذريعة الابتعاد عن التقاليد ، والدين ،اي عن ألاصالة المنتهكة !!!
وهكذا يكون الدين من ضمن مفردات التراث و الثقافة ، حيث يبدأ " تراثا " ، ثم يتحول الى " ثقافة "، حسب تشكلات وعي الانسان ، ونضجه  .


ليست هناك تعليقات: