قصتي القصيرة التي
نشرت في مجلة ( الموقف الثقافي ) قبل ايام قليلة من بدء الغزو الامريكي على العراق
واحتلاله في العدد/ 43 / ك2 شباط / 2003 ولم يتسنى للقراء اقتناء العدد من المجلة
لذا اقتضى نشره على جدار صفحتي :
الكرسي المتحرك –
قصة قصيرة
داود سلمان
الشويلي
:- موافق .
:- ...........
لم تكن الكلمة التي نطق بها الان - وبالضبط في هذه اللحظة - ( اقصد لحظة نطقي
لتلك الكلمة ) سوى السحر نفسه ...اذ جعلت شقيقتي ( شقيقتي التي تصغرني بعامين
) طائرا يحلق في الفضاء الذي ينقسم الى نصفين مضطربين بالفرح ، احدهما الذي ما زال
( هو، وكذلك انا بالتأكيد ) يقبع فيه ، وهو يجلس على الكرسي ذي العجلتين ،
والاخر ، الذي ضاق بـ عفاف ، ( عفاف شقيقتي) ،فأمتلأ بها ، او هي
ملأتهبساعديها المفروشين كجناحي طائر راح يرقص فرحا ، في فضاء هادئ جميل.
: موافق ...
قالها ( هو ، اقصد انا بالضبط) الجالس على الكرسي بمضض ، ( كنت انا ادفع
به دفعا لينطق تلك الكلمة التي كثيرا ما كنت ارغب فب امرارها على حباله الصوتية
التي يملكها هو دون سواي ) بعد تفكير طويل ... اذ لم يكن ( هو وليس انا ،
وبتأثير مني ) يرغب بأن يطول به ( اي انا بالضبط) التفكير اكثر مما يجب ،
وهو يجلس على كرسيه المتحرك امام النافذة الزجاجية لغرفته ( هي غرفتي نفسها)
المطلة على الحديقة الخلفية لبيـتـ (نا) . نعم ، قالها ( وانا كذلك) بهدوء
، اقصد همسـ (نا) معا : موافق ...
عندها امتلأ جو الغرفة بعطر فواح لذيذ ، تعرفت ( انا وليس هو الذي نسيه)
عليه مباشرة ( وعلى استحياء منه) بعد ان انفتحت ظلفتا باب الغرفة ، وانطلق نورها
هادئا شفيفا من بين ثناياها محملا بأريج انفاسها ، مترنما ( هكذا سمعت ) بموسيقى
دقات قلبها التي اخذت تتسارع وهي تتجاوب مع دقات قلبي الفرحة ( هي نفسها دقات
قلبه المضطربة حياء والذي لم يستطع السيطرة عليه) فتصاعد النبض لقلبـ (نا)
.
امتلات الغرفة بالفرح ... ابتسمت ... هكذا احسست ( بعد ان تركته هو وحياءه
وخوفه واضطرابه) ، بكل اثاثها البسيط ، حتى الكرسي المتحرك راح هو الاخر يهتز
متراقصا .
: موافق...
لم نكن انا (وهو وقتذاك) وهي - بعد - قد اتفقنا على شيء ما ( يتذكر هو
وكذلك انا كل ذلك) ... كل الذي جرى بيننا عبارة عن عهد اقمناه معا فيما بيننا
.
وقتذاك ( قبل ان يجلس هو على الكرسي ، او ان اجعله انا يجلس هكذا على الكرسي )
قلت لها ان زواجنا سيتم بعد حصولها على الشهادة ، اي بعد عام واحد ... اما غير ذلك
، فليس الا اشياء تافهة لا يمكن ان نعيرها اهتماما ... وهكذا سارت حياتنا كما
خططنا لها عند اول لقاء لي معها .
أذكر حينها .. انني اخبرتها بحبي لها .. لم ار على وجهها اية علامة تنبيء عن شيء
ما .. الا انني ( كما اتذكر الان) رايتها تنظر نحوي .. اطالت النظر ، كأنها
تراني للمرة لاولى ، عندها قلت لها ، وكأني لا اريد ان استفز مشاعرها :-
:-
لا اريد منك الاجابة الان .. فكري بالامر .
لم ترفع عينيها عن عيني ...
احسست ( وقتذاك كما اذكر ) بنظراتها تخترقني ، فيما قلبي ، كان قد ركب
امواج بحر هائج .. اضطربت دقاته وهو يدفع بالدم الى خلايا جسدي .. همست من بين
شفتين ورديتين ( كان هذا هو اللون الطبيعي لشفيتها ) :-
:-
ومن قال لك ان ذلك يحتاج الى تفكير طويل ؟
تركتني واقفاً – كان ذلك اللقاء في احد ممرات الكلية – في جو من الحيرة والاضطراب
.. احسست بساقي يخذلانني ودون ان اقول شيئا لها ، كانت هي قد وصلت الى قاعة الدرس
.
:-
موافق ...
اكثر من مرة طلب منه ابي ان يسمح لــ ( سناء ) ( هذا هو اسم حبيبتي التي حاول
ان يجعلها تتركني ) برؤيته ( ورؤيتي انا خاصة ) .. اما امي ، فقد كانت
قاسية معه ، قالت له :-
:- انك تقتلها . كيف اصبحت قاسياً هكذا الى هذه الدرجة ( كنت دائماً الومه على
هذه القسوة ) .
اما ( عفاف ) فقد اعادت الى مسامعه ( مسامعي ) نفس اسطوانتها التي ملَ (
لم أمل انا ) سماعها .. وهي تعرف جيداً كرهه ( هو وليس انا ) لتلك الاسطوانه
التي ادارتها ..
قالت :- الا تحبها ؟
وقبل ان يجب بكلمة ما ، راحت تلك الاسطوانه تقول :- اذا كان حبك لها قد تحول الان
– الى كراهية ، فاخبرها انت بنفسك ( قررت ان اقتله ان اخبرها بذلك ) .. قل
لها انك لا تريدها ( انها مجنونه هذه الاخت ) .
لم يقل شيئاً ، سوى ان عجلات الكرسي الذي يجلس ( وانا كذلك ) عليه ظلت
ثابتة في مكانها ، حتى انها لم تدر .
واستمرت الاسطوانة تقذت بحممها البركانية في اذنية :- ولكن قل لي ، لماذا تعطي
لنفسك ( نفسي انا بالضبط ) الحق في رؤيتها خلسة من خلل فتحة الباب الغرفة ،
او من خلف درفة الشباك الذي اصبحت مدمناً على الجلوس بالقرب منه .. ها ..
لماذا ؟
لم يجرؤ ( هكذا رددت مع نفسي ) احد منهم ان يقول الحقيقة .. اعرف انهم لا
يريدون قولها امامه ( انا مستعد ان سمعها برحابة صدر ) .. الا ان جدي ( جده
كذلك ) وبعد نقاش طويل معهم ، دفع باب غرفته ودخل مهتاجاً .. ولاول مرة اراه
هكذا مضطربا ( كنت انا سعيداً بهذا لاهتياج ) صاح به :- هل تستحي ايها
المقاتل الشجاع من اوسمة البطولة التي تزين بها يدك ( كانت يدي في السابق )
وساقيك ( كان ساقي في السابق) .. قل .. هل تستحي منهما ؟
امتلأ جو البيت بصوت نشيج انثوي .. اعرفه (و يعرفه هو كذلك ) جيداً .. كان
النشيج متقطعاً .. كانت امي الوحيدة من بين النساء اللائي اعرفهن تبكي هكذا
.. هل كان كلام جدي موجها لها ، ام له ؟
ومن بين ذلك النشيج الحنون ، قالت له بعد ان تركه ( وتركني ) واوسمته (
الاوسمة الت حصلت عليها انا ) التي راح يذكره بان يفخر بها ( انا فخورة بها
) .. او كما اعتقد هو يستحي منها :-
:-
حجي ، ماذا تقول ، لماذا تقسو عليه هكذا ؟
اسكتها صوت ابي .
:-
دعية يخبره بالحقيقة ( كنت فرحاً بهذا القول ) .. الحقيقة التي لم نستطع
نحن قولها امامه .
هذه هي الحقيقة التي ظلت مختبئة تحت السنة ابيك وامك وشقيقتك ( ابي وامي
وشقيقتي ) متوارية في حياء داخل تلافيف ذاكرتهم .. وقد احنوا ظهورهم عليها
خوفاً من ان تنطلق امامك ( امامي ) على شكل كلمات . الحقيقة التي ازال جدي
الصديد منها ..
نغزها هذه اللحظة .. لقد فجرها .. قطعة زجاج تهشمت مرة واحدة ، فراحت قطعها
الصغيره تنكأ الجروح التي سببتها اصابتك ( اصاباتي ) في المعارك .. راحت
تصرخ بصوت واحد ، انها الحقيقة التي كنت تخفي وجهك ( ليس وجهي) عنها
بحياء.. تلوذ ( انت الذي تلوذ اما انا فكنت احاول الا افعل ذلك ) بصمتك في
ظلام الغرفه الدامس .. كنت تقفل ( نعم انت الذي تقفل ) بابها و شبابيكها
عندما ياتيك (وكنت انا اكتم غيضي ) عطرها ... صوتها (كلامها ، ضحكتها ) وهي
تدخل باحه الدار .. او وهي تسأل عنك ( لم تات مره دون ان تسال عني ) ..
تذرف دموعها (اسمع نشيج بكائها ) امام والدتك و اختك .. كانت تتوسل بشقيقتك
(كنت انا اسمع كلمات التوسل وكذلك انت ،وكنت انا اغلي فيما كنت انت تغلي .. انا
من غيظي منك ، وانت من حياتك ) .. تطلب منها ان تتحدث معك ( ياليتها كانت
تعرف ما تكنه لها من مشاعر حب لم تزل كما هي ) .. تدفع بشقيقتك الى باب غرفتك
علك تقبل ( وكنت انا اتحرق شوقاً لان تقبل سماع كلمة منها .. وكنت لا اريد
كلمات التوسل ، كنت اريد فقط اسمع صوتها ) بلقائها .. كل ذلك لم يفد معك ..
لقد جعلك هذا الشلل اللعين تنسى سنوات الحب (حبي انا ) التي كانت لافتة
بيضاء – وما زالت - امامك ( انت وانا ) .. تخوض ( اقصد انا الذي
كنت اخوض ) ما خضناه من معارك .. من سيف سعد حتى المحمرة .. في الهور ، او على
قمم الجبال .. عندما كنت ( انا وليس انت ) اخرج منها سالماً كنت احدث
اصحابي واهلي ، واخبرها هي بالذات ، ان سلامتي كانت بسبب تلك اللافتة البيضاء التي
ارتسمت عليها سنوات حبي .. كل ذلك حدث .. نعم .. الا انه لم يفد معك بشيء .. ( نعم
.. الا انه ليس هو الحقيقة ) ولم يخرجك من عنادك ( ليس عنادي انا ) ..
ومن هذا الموقف الذي اتخذته ( وانا ارفضه ) حيالها .. لماذا ، لماذا
تفعل بها ( بي ) كل هذا ( مجبر انا على ذلك ) ؟ . هل تستحق هي منك
(ليس مني) كل هذا الجفاء ؟ (رغما عني) .. لماذا .. لماذا؟
:-
موافق .
وانفتح باب الغرفة .. امتلأ فضاؤها بضوء عطري .. كان شبحها ، لا .. كيانها ..
ذاتها ، بل هي نفسها ، بروحها المرحة ، بأبتسامتها الوردية ( كما هي دائماً )
بغمازتي خديها .. بظراتها الــ .. آه .. هاهي امامي .. هل ... بماذا اقابلها :
بهتين الساقين العاجزتين .. ( سأقتلك ان فكرت بذلك ) ...
اللذين اكلتهما نار البارود فشوهتهما تماماً ..( قلت سأقتلك ان عدت لذلك
) .. يا الهي .. النار .. النار .. اشتعل القلب مني .. فيما راحت احشائي تستعر ..
الحر .. البرد .. لم اعد اتنفس ، قطرة ماء .. الهواء .. الهواء .. ماء .. الهواء
.. ( كان صراخاً محموماً ) .
في المستشفى رفض ( الم اقل ان تتركنا انا وهي ) استقبالها .. جاءت ثانية
دون جدوى ( لماذا تغيضني ) .. توسلت اليها شقيقتي الا تتعب نفسها
بالمجيء .. قالت لها بتودد :- ارجوك اعذريه ( هو لانه يستحي وانا لانني لا اقدر
عليه ) .. لقد صدم ( كلانا صدم ، اما انا فقد اجتزت الصدمة ) .. علينا
ان نخرجه ( هو فقط ) من محنته هذه ( ومحنتي انا معه ) ثقي انه سيعود
( نعم سأعود ) اليك .. سيرجع ( هذا اكيد ، سأجبره ) حتماً .. انني
على ثقة من انه ( وهو كذلك رغم كرسيه الدوار ) يحبك كثيراً ( وهل ما
فعلته ليس بحب !؟ ) .
لم يكن المستشفى هو المكان الوحيد الذي رفضت ( انت الذي رفض رغماً عني )
رؤيتها لك .. رفضت ان تراك ( تراني انا ) ممدداً على السرير .. شراشف بيضاء
( كانت لافتة حبها لي هي الاخرى بيضاء ) وقناني المغذي والدم ( كان
حبها هو غذائي الوحيد عند احتدام المعارك ) تمد اذرعها البلاستيكية الى جسدك (
فيما جسدي ما زال يتغذى على حبها ) .
لم تكن هي قد انقطعت عن المجيء لرؤيته ( ولم يكن خاليها قد ابتعد عن روحي )
.. كانت تاتي مع أهلي ، تبقى واقفة خارج الغرفة ( فيما كانت روحها تدخل معهم ،
تطوف حولي على السرير ، او تجلس على احد الكراسي التي يجلس عليها اهلي بالقرب من
السرير ) .
مرة فتحت الباب بقوة .. كانت هي نفسها ، هي نفسها .. هي نفسها ( لماذا
تسرع الى غطائك الابيض ، سحبته .. دثرت جسدك وجهك ) .. ( كنت ترغمني على ان
ادس وجهي تحت الغطاء ) ... سمعتها تصرخ .. واقدامها .. حذاءها الجلدي يصرخ على
بلاط ممر المستشفى والباب يغلق بشدة كم اشفقت عليها ( حقاً كنت قاسياً عليها
وعلي انا بالذات ) خفت عليها ( انا وليس انت .. وانت كذلك ) .. بكيت
عليها ..
:-
موافق :-
ها هي الان امامي .. ( قلت لاشأن لك بها ، .. اتركني معها .. )
:-
موافق ..
قلتها هامساً :- موافق .
ها هو حبي واقف خلفي ، مجسد بهذا الكيان الجميل .. فيما كانت حديقة دارنا امام
ناظري .. وها انا اختلس النظر اليها من خلال انطباع صورتها على زجاج النافذة امامي
.. هل ادير الكرسي ( استلمت قياده رغماً عنك ) .. هل ..
كانت هي المبادرة .. بيدين احسست بهما ترتعشان فرحاً ، راحت تدير اتجاه الكرسي ..
فالتهبت النار .. الحب .. الحنين .. الشوق .. في حضني ( حضني انا وليس حضنك انت
) .. كان شعرها الاسود الفاحم الناعم قد ملأه ( سأقتلك ان دفعت برأسها
خارج حضني ) .. تكوم مرة واحدة ، وراح ينشج ..
كان صوت بكائها قد ملأ الغرفة ، فيما تساقطت قطرات الدمع على الشرشف الذي يغطي
ساقي .. كانت حرارة دمعها قد تسللت الى عظام ساقي .. احسست بهما ( عظام ساقي
) ترتديانه .. تتحدان .. تنتعشان .. وبأن الاف القطع الزجاجية الصغيرة في لحم
الساقين ، تتجمع على شكل كرة صغيرة تنقذف خارج كياني .. عندها وضعت شفتي على شعرها
الفاحم الذي ما زال مفترشاً حضني .. وقبلته .
10 /4/1990
-------------
- نشرت
في مجلة الموقف الثقافي - ع 43/ ك2- شباط/ 2003 .
-نشرت بتاريخ 29-12-2007في موقع
وكالة اخبار العراق - الصفحة الادبية 0
-
نشرت على موقع اصدقاء القصة السورية في ك2/ 2008 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق