الاثنين، 27 يونيو 2016

(" ربما " أمير الحلاج... دراسة في قصائد " الدائرة خارج الشرنقة " )



نشرت "ثقافية "جريدة ( الشرق ) يوم الخميس 23 / 6 دراستي عن المجموعة الشعرية للشاعر امير الحلاج بعنوان (" ربما " أمير الحلاج... دراسة في قصائد " الدائرة خارج الشرنقة " ) شكرا لمحرر الصفحة .
" ربما " أمير الحلاج... دراسة في قصائد " الدائرة خارج الشرنقة " 
قراءة : داود سلمان الشويلي
الشعر هو:(أجود الالفاظ في أجود نسق، وإنه تخير لمداليل بعينها) - كولردج -
اهتم النقاد العرب القدامى بالللغة من حيث انها معطى اجتماعي تعارف وتصالح عليه الناس ( راجع الخصائص لابن جني ) ، وكذلك ، اولوا الكلمة الشعرية اهتمامهم ، فدرسوها ، و وضعوا اشتراطات محددة لما يسمى بالكلام الشعري، منها ان اللغة كلها لا تصلح لان تكون لغة شعرية ، فللشعر لغة خاصة ، وعلى الشاعر ان يختار الفاظه كي يتجنب الفاظ لغات اخرى كأن تكون لغات علمية ، او عامية ، وذكروا ان اللغة الشعرية لها خصائص من شأنها أن تثير السامع من حيث مجالها الصوتي او الايحائي ، فاصبحت عند ذاك اللغة هي الغاية لا الوسيلة ، الغاية من حيث ان الشاعر يبحث عن المعنى، وعندما يجده ، يبنيه بناء شعريا ، ولهذا يعتبر الشعر لعب في اللغة وعلى اللغة.
وعندما يبحث الشاعر عن اللغة التي هي عبارة عن الفاظ وكلمات ، فاننا لا نقيدة بالفاظ وكلمات معينة ، لان ذلك يحد من حريته في البحث في اللغة ومجاهلها وما مخفي منها ، او عن المجاز فيها ، ليصل الى لغته الشعرية ذات المدلولات والايحاءات العديدة ، والمتنوعة .
ولما كان الشعر ذا اغراض عديدة ومتنوعة ، فان لغته تختلف من غرض الى اخر .
ان اختيار اللغة يعود الى وعي وثقافة الشاعر ، فكلما كان الشاعر واعيا لمهمة اللغة ، ومدركا لاستعمالاتها ، كلما كان اختياره صائبا ، وكلما كانت ثقافته اللغوية واسعة ، يكوت اختياراته صائبة ايضا .
بين يدي مجموعة شعرية للشاعر امير الحلاج بعنوان " الدائرة خارج الشرنقة " ( دار ميزوبوتاميا – 2016 ) مكتوبة بلغة الشعر التسعيني التي تتصف برمزيتها العالية ، وايحائيتها المولدة ، وقدرتها على ان تحمل اكثر من مدلول .
رأينا في لغة قصائد المجموعة ان الشاعر ، و في اكثر من قصيدة ، اختار لفظة جافة وغير شعرية واستخدمها في القصائد تلك ، على الرغم من اننا نفهم جيدا ان لا وجود لكلمة غير شعرية ، فعندما يستخدمها شاعر متمكن من لغته ، تلبس لبوس الشعر ، وهذه اللفظة هي " ربما " التي هي: أَدَاةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ :- رُبَّ :- وَ :- مَا :- الزَّائِدَةِ . ( المعجم: الغني)
و رُبَّما :- بمعنى من المحتمل ، وهي مركَّبة من ( رُبَّ ) و ( ما ) الكافة ، تدخل على المعارف ، وعلى الأفعال ، وقد تخفَّف فيقال : رُبَما :- رُبَّما حضر الغائب ، - ربّما عليٌّ قادم . ( المعجم: اللغة العربية المعاصر)
في قصائد مجموعة " الدائرة خارج الشرنقة " ترد لفظة " ربما " ست مرات في الصفحات 21 مرتين ، 52 ،57 ، 76 ،80 ، وهي ترد بمعنى " من المحتمل " أي ان الشاعر يتوجس خيفة من قول الحقيقة ، فيضع اجابته في مرحلة الاحتمال الكامن فيها .
في قصيدة تجاعيد ، يقول الشاعر : ص21
* والطبيبُ يقولُ :
- ربَّما مرضٌ عضويُّ التسبّبِ أو نفسي.
فالاحتمال قائم بين ان يكون المرض عضوي او نفسي .
ويقول ايضا :ص21
* تهربُ المرآة حينَ أُواجهُها
مابالُا في الهروبِ ؟
ربَّما هذه وسيلتُها في الرثاءِ
أَو الخشيةُ على سطحِها المصقولِ
أن يخدشَ من ذكرياتِا الطفولَةَ.
المرأة هاربة لا محالة ، الا ان الشاعر يضع لهروبها اسبابا محتملة ، فأما انها تهرب بسبب جعل الهروب هو رثاءها للعزيز عليها ، او ان الهروب هذا سيفيدها في المحافظة على ذكريات طفولتها من ان تخدش او ينالها امر ما . 
ويقول في قصيدة " الممحاة": ص52
* قالَ:
- غيومُ المكتباتِ ستمْطرُ عليكَ كلَّ المماحي،
ربَّما لحْظةُ سهوٍ أو لحظةُ صحْوٍ بقارعةِ العمْرِ ،
قالَا واخْتفى دونَ الإعادة لشعْلَةِ القصْدِ ،
أَنْ هَلِ ارتكبتُ خطأَ النظرةِ في بيئةِ العَنْدَمِ !
الامر بين امرين اما ان تكون " غيوم المكتبات " قد تمطر في لحظة سهو ، واما في لحظة صحو..
وفي قصيدة " محاق " يقول : ص57
* مثلَ اختلالَينِ ينبثقانِ سواداً يماثل نافورةَ النورِ
والرأسُ مِنْ صدمةِ التيهِ يصدمهُ كاسرُ العنقِ حالَ تألقِهِ
ربّما مِنْ خيالٍ سما الشطحُ فيهِ
وإنْ هيمنتْ لحْظةُ السهْوِ في عَفَنِ الذكرياتِ
فتعلو إلى غيمةِ الليلِ
قبّةُ وأْدِ الصَّباحِ.
في هذه القصيدة ترد " ربما " لتسحب من وراءها احتمالا واحدا لا اثنين ، وهو " ربّما مِنْ خيالٍ سما الشطحُ فيهِ" وهذا الاحتمال الوحيد الذي فرضه حال تألق الرأس.
وفي قصدة " حوار الكؤوس " يقول : ص76
* يزرعْنَ العيونَ المتساقطةَ مِنَ المحاجرِ
في خطوطِ البنِّ المترسِّبِ
أو يشكو الشايُ المتروكُ اليهِ
ربَّما مِنْ زيادةٍ في السكَّرِ
ربَّما مِنْ بعضِ المرارةِ
والبعضُ يتأفَّفُ مِنَ البرودةِ .
ترد لفظة " ربما " مرتين ، وفي كل مرة تعطي احتمالا متغيرا ، وليس كما رأيناها في القصائد السابقة ، حيث تفصل (او ) بين الاحتمالين ، وهي اداة عاطفة تفيد التخيير بين شيئين ، او امرين ، او احتمالين .
قي قصيدة " نيزك " يقول الشاعر : ص80 
* لا تهمني البقعةُ التي تحْتويني
ربَّما سيذوبُ جبلٌ منْ جليدٍ
ربَّما بالغليانِ سيصابُ المحيطُ
أَوْ تتهدمُ مدينةٌ كاملةٌ
أَوْ أصنعُ في الأَرضِ المنبسطةِ
حفرةً مقعرةً
أَوْ أستقرُّ على قمَّةِ أعلى الجبالِ .
ترد لفظة " ربما " خمس مرات ، منها مرتين ترد صريحة اللفظ ، وثلاثة اخرى ترد مستترة او مخفية ، او غائبة ، فالاحتمالات في هذه القصيدة اكثر من اثنتين ، انها احتمالات خمس ، فهي اما ذوبان جبل الجليد ، او غليان ماء المحيط ، او ان تتهدم مدينة ، او صناعة حفرة مقعرة ، او الاستقرار على قمة جبل.
في الابيات الشعرية التي تغيب فيها لفظة " ربما " فان " او " العاطفة ، تحجز ما بين الاحتمالات تلك .
وبهذا نرى الشاعر قد استعمل لفظة واحدة هي " ربما " استعمالات ثلاث ، اما ان يكررها هي لقول احتمالاته ، او ترد مرة واحدة وبعدها يستخم اداة العطف " او " ، او يستخدم الامرين في قصيدة واحدة .
وقد استخدمها الشاعر في ديوانه " من النقطة الى الدائرة " فقال في قصيدة "هاتف في افتراضات" : ( ص 46 )
* ربما قطعوا الخط منتظرين اكتمال قيمة الفاتورة السابقة
ربما الجرس عاطل
ربما السلك، لشد حملها قطعته شاحنة عابرة .
اذ استخدمها في هذه القصيدة ثلاث مرات لزيادة التأكيد على الاحتمالات ، كاستخدامه لها في قصدة " حوار الكؤوس " ، و قصيدة " نيزك " من هذه المجموعة. 
هذه الاستعمالات اتاحت للشاعر التنوع في استخدام اللغة ، وعدم التكرار الذي يصيب المتلقي بالممل ، وهذا معناه ان له القدرة في استخدام قاموسه الشعري ، ويمتلك المهارة في ان يبعث في الفاظة الطاقة الايحائية الشعرية ، والدلالية ، والصوتية ، وقد امتلك الشاعر ، عند استخامه لقاموسه الشعري ، الخصوصية التي مكنته من التفرد من بين شعراء التسعينات في طرح لغة تساير ما ينتجه من قصائد تتصف بنوع خاص من الرمزية.
انه حرر لغته المستخدمة من قيدها القاموسي ، أي في انتظامها في المقاييس الخارجية ، والبسها ثوبها الشعري ، فادخلها عالم قصائده ، عندها امتلكت جمالية شعرية .
و الشاعر ثمانيني ، حسب تصنيف الشعراء على العقود ، تحمل قصائده التي ضمتها مجاميعه الاربعة لغة خاصة بها ، وصور شعرية ذات ايحاءات تجد صعوبة في الولوج في ذائقة المتلقي الا بعد حين ، انها تجعل ذائقة المتلقي واعية ، مستفزة ، منتبهة ، لما يسمع ، او يقرأ من هذه القصائد.
هذه المجموعة هي الرابعة للشاعر ، إذ سبق ان اصدر : مواجيد الحلاج /شعر / 1989، نقطة فوق هامش التوضيح / شعر / 1997، من النقطة الى الدائرة /شعر / 2001.

ليست هناك تعليقات: